محمد بن عيسى يحاضر في لندن عن التفاعل الحضاري بين المغرب والأندلس.. وأصيلة كقاسم مشترك

قال إن تجربة جامعة المعتمد بن عباد شجعت على توسيع دائرة الحوار بين الشمال والجنوب

محمد بن عيسى يتحدث في المحاضرة، وبدت في مقدمة الحضور الأميرة للا جمالة العلوي سفيرة المغرب لدى بريطانيا (تصوير: حاتم عويضة)
TT

قال محمد بن عيسى الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير خارجية المغرب السابق، إن تجربة جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في أصيلة شجعت المؤسسة على توسيع دائرة الحوار واستكشاف إمكانيات التواصل واللقاء بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، وتوطيد دعائم الشراكة بين جنوب ـ جنوب، مشيرا إلى أنها نجحت في مسعاها وتمت في كثير من الندوات مناقشة قضايا الراهن وآفاق المستقبل والدعوة إلى تحالف الحضارات.

وسجل بن عيسى، في محاضرة ألقاها مؤخرا في لندن، بعنوان «التفاعل الحضاري بين المغرب والأندلس ـ أصيلة قاسما مشتركا» التي نظمت تحت إشراف ملتقى اتحاد المدارس العربية في بريطانيا، أن «الحكماء» في المغرب وإسبانيا من رجالات السياسة والفكر والفن والاقتصاد والأعمال، يؤمنون بحتمية انتصار مقولة التعاون الذي لا مفر منه لمواجهة إكراه الحاضر وتحديات المستقبل، وهو ما يحمل على التفاؤل بتجاوز المشاكل العالقة الموروثة عن الماضي الاستعماري، إن آجلا أو عاجلا.

وأوضح بن عيسى أن ما يُحير المغاربة حقا، هو أن بعض العقليات في إسبانيا لم تتحرر من الإرث التاريخي السلبي. وما زالت تعتقد أن المغرب هو سبب ضياع الأندلس منها طيلة ثمانية قرون، ناسية أمرين هما: المخلفات الحضارية التي ساهمت في نهضة إسبانيا نفسها فيما بعد، فأصبحت دولة قوية عسكريا، موحدة الممالك. وقفز تلك الذهنيات الضيقة، على الحقائق الاستراتيجية والحتمية التاريخية لذلك الزمان، مبرزا أن هؤلاء لا يكلفون أنفسهم مشقة وضع سؤال عن المحفزات والدواعي التي جعلت طلائع العرب يغادرون أوطانهم، نحو شبه الجزيرة الأيبيرية، ليشيدوا بشراكة مع المغاربة، تجربة حضارية غنية في بقاع الأندلس البعيدة عنهم.

وأشار بن عيسى إلى أن الأندلس ظلت خلال مجدها جسرا بين الشرق والغرب، على الصعيد التجاري والثقافي وحتى العسكري. وقال إنه حري بالأطراف المعنية أن تعود إليها لتكون مجدَّدا نقطة الالتقاء الحضاري والفكري والإنساني.

ووصف بن عيسى النموذج الحضاري الذي تكوَّن وساد في الأندلس خلال الوجود العربي بها، بأنه استثنائي بكل المقاييس التاريخية، قلما يوجد له نظير إلا فيما نَدر، في تاريخ المجتمعات الأخرى، بما فيها الإسلامية؛ إنْ في مداه الزمني أو في الأثر العميق الذي أحدثه ذلك النموذج في المنظومات الحضارية القائمة آنذاك، سواء المعاصرة للأندلس الإسلامية أو المجاورة لها، وكذلك المنظومات اللاحقة التي نهضت فيما بعد، في أجزاء من أوروبا ذاتها.

بيد أن بن عيسى أوضح أنه لا يدعو إلى استنساخ الماضي بحذافيره لأنه ولى، وإنما الإفادة من دروسه ونتائجه باعتباره ممتدا في الحاضر بشكل من الأشكال. قبل أن يضيف أن «ما يشغلنا في تاريخ الأندلس يجب أن يظل منحصرا، من وجهة نظري، في العبرة التاريخية المستخلصة».

وزاد قائلا: «تلك أرض مثيرة حقا للإعجاب، استوعبت وتمثلت وآوت مختلف المكونات والعناصر الحضارية الوافدة والمحلية. انصهرت وتلاقحت فيما بينها، دون أن تطمسَ الواحدةُ الأخرى بل شكلت جميعها سلسلة تآلفت وتنافست عناصرها فتولدت عنها بنيات حضارية، مطبوعة بسمات الوحدة والتنوع والتفاعل والاستمرارية وإسعاد المستظلين بظلالها؛ مما ساعد تلك الحضارة، على الهجرة إلى بيئات ومجتمعات أخرى، استوطنتها وساهمت، كليا أو جزئيا، في دورتها الحضارية».

ومن هذا المنطلق، يقول بن عيسى إنه يجب التذكير بأنه لا يليق بأهل أي حضارة أصيلة حقا أو جنس، الادعاءَ أنهم وحدهم صانعو ومنظمو الدورة الحضارية المستمرة بدوام الكائن البشري. وهذا مبدأ ينسحب على حضارة الأندلس ذاتها.

وذكر بن عيسى أن قرطبة تشكل إلى جانب فاس في المغرب وأشبيلية وغرناطة في الأندلس، «حواضر العلم والفكر». بل يمكن اعتبار تلك المدن عواصم ثقافية، تنافست فيما بينها لتصبح ملاذا فكريا آمنا. ذلك أن أدباء وفلاسفة وأطباء ومؤرخون من العدوتين ترددوا عليها، بحثا عن هواء فكري نقي، أو طلبا لحظوة لدى حكام متنورين توالوا على حكم المدن المذكورة، اشتهروا بعطفهم على العلماء وحمايتهم لهم من «شطط» الدهماء، التي حركتها في بعض الفترات التاريخية أهواء ومطامع وصراعات غامضة، أو أعماها الجهل.

وتحدث بن عيسى عن أصيلة ومواسمها الثقافية السنوية، وقال إن الأنشطة الفكرية المقامة، صيف كل عام تنتظم في ظل جامعة صيفية، تحمل اسم «المعتمد ابن عباد» الشاعر الأندلسي الرقيق، الذي لم يستطع التوفيق بين ما تقتضيه السلطة والحكم، في ظروف صعبة من دهاء ومكر اصطدمت بروح الفنان المتأصلة فيه، فأخفق الشاعر في مسعاه السياسي، لينتهي به المطاف أسيرا في بلدة «أغمات» بضواحي مدينة مراكش.

وزاد بن عيسى قائلا: «عندما أطلقنا في أصيلة اسم المعتمد ابن عباد على الجامعة، كان حاضرا في ذهننا البعدُ الأندلسي، معتبرين ابن عباد رمزا ثقافيا يتقاسمه البلدان، بصرف النظر عن الملابسات المأساوية التي أحاطت أطوار حياته في الوطن والمنفى».

أما الاعتبار الثاني لاصطفائنا للاسم، يقول بن عيسى، فيتمثل في كون الشاعر الأسير يرمز إلى تلك الوشائج القوية التي جمعت المغرب بشبه الجزيرة الأيبيرية في شتى مناحي الحياة، مما أعطى للمغرب ما أسميه «حق الحضور الطبيعي» في شؤون الأندلس من باب حمايتها والحرص على استقرارها. لكن حينما قدرت السلطة في المغرب أن الأمور تسير في غير وجهتها الطبيعية، تصرفت بصورة حاسمة مع المعتمد وغيره.