الإسماعيلية.. درة العمارة الخديوية في مصر

شيدها الخديوي إسماعيل لتكون «باريس الصغرى»

شركة القناة بدأت في بناء المساكن في الحي الإفرنجي للموظفين الأجانب عام 1912 واستمر البناء لتستكمل حي النخيل لمدة عشر سنوات («الشرق الأوسط»)
TT

برغم مرور 150 عاما على إنشائها، فإن مدينة الإسماعيلية المطلة على ضفاف قناة السويس، لا تزال مدينة حديثة العهد بمقاييس التاريخ. ولا تزال تحمل روح والي مصر الخديوي إسماعيل الذي خطط لإنشائها لتكون مركزا عمرانيا تدار منه دفة الممر الملاحي العالمي الذي سيغير وجهة طرق التجارة العالمية.

كان انبهار الخديوي إسماعيل بالمجتمعات الأوروبية خاصة الفرنسية له أكبر الأثر في تخطيطه وتوجيهاته لجعل المدينة البكر قطعة من مدينة النور العاصمة الفرنسية «باريس»، حتى بنيت الإسماعيلية على شاكلة باريس. لقد وجد الخديوي إسماعيل الذي طالما كان يردد «هوايتي الطوب والمونة» الفرصة أمامه سانحة لإقامة مجتمع عمراني يتسم بطراز فريد، حتى أن اسم المدينة اشتق مباشرة من اسمه.

اصطحب الخديوي إسماعيل عند عودته من فرنسا المهندس الفرنسي هوسمان كبداية لتحقيق حلمه في إنشاء مدينة حديثة تصاحب افتتاح قناة السويس في 1869 واستعان ببعض المعماريين الفرنسيين الذي شيدوا قلب عاصمة النور لتخطيط مدينة الإسماعيلية.

بدأ التخطيط لإنشاء «باريس الصغرى»، في مايو (أيار) 1863 قبل افتتاح قناة السويس في مايو 1869، سبقتها خمسة أعوام من التصميم والإعداد استغرقها فريق عمل من المهندسين والخبراء والمعماريين الفرنسيين لإقامة المدينة الجديدة وتصميم التخطيط الكامل لإقامة شبكة من المياه والصرف الصحي والإنارة بالغاز ورصف الشوارع بالبلاط المنجنيز والأرصفة وأفاريز للمشاة. وتم تخطيط الحدائق التي جلبت أشجارها من الهند والسودان والصين وأميركا، لتكون متنفسا ورئة طبيعية للمدينة التي باتت قطعة من باريس.

يقول محمد يوسف مؤرخ ومعد للبرامج التاريخية بالقناة الرابعة بالتلفزيون المصري، إن أول المباني التي أقيمت بمدينة الإسماعيلية كان قصر الخديوي إسماعيل المواجه لأعمال الحفر حيث تم تشييده على مساحة تجاوزت 3000 متر مربع، تم البناء على 25 في المائة من مساحة الأرض وزينت باقي المساحة بالحدائق والأشجار التي تشبه في تصميمها قصر المنتزه بالإسكندرية.

ثم كان ثاني الأبنية التي شهدتها المدينة مبنى استراحة المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس التي شيدت على طراز فيلات الريف الفرنسي. توالى بعد ذلك إنشاء المباني منها مبنى إدارة قناة السويس ومدرسة القديس فان سان دي بول تلك المدرسة التي أسسها الفرنسيون ليقتصر التدريس فيها على أبناء الجاليات الأجنبية فقط، وهي مدرسة يصل عمرها لنحو 150 عاما تشبه في تصميمها مدرسة الليسيه بالمنيرة بالقاهرة، فلقد راعى المعماري الذي أنشأ المدرسة أن تكون قطعة فنية بمبانيها الواسعة وحدائقها وملاعبها وكان مدرسو المدرسة من الأجانب، وظلت اللغة الفرنسية هي اللغة الأم بالمدرسة، وكان يحظر على المصريين دخولها حتى وإن كانوا من أبناء الطبقات العليا.

ويقول يوسف إن شركة القناة بدأت في بناء المساكن في الحي الإفرنجي للموظفين الأجانب عام 1912 واستمر البناء لتستكمل حي النخيل لمدة عشرة سنوات. كانت كل بناية مقامة على هيئة فيلا فاخرة تتكون من دورين على طراز مساكن الريف الفرنسي.

وكانت تكلفة إنشاء الفيلا حوالي 3500 جنيه إسترليني، وهو مبلغ كبير بأسعار هذا الوقت، وكان يتم تقسيط سعر المسكن على العمال الأجانب بواقع 8 في المائة سنويا من التكلفة الإجمالية. حتى تمت أعمال التأميم وكانت تكاليف المباني قد تم تسديد 80 في المائة من تكلفتها الكلية التي لم تذكر كتب التاريخ قيمتها الإجمالية تحديدا.

وتذكر إحدى المدونات الإلكترونية المهتمة بالعمارة الخديوية، أن المخططين اعتمدوا في تخطيطهم للإسماعيلية على سبعة أسس، حيث قرر المهندسون أن يتم تخطيط الحي إلى مناطق لكل منها اشتراطاتها المعمارية وفق نوعية الحياة التي ستكون سائدة فيها، بدءا بالفيلات والقصور، وانتهاء بالمناطق الصناعية مرورا بالحدائق العامة والمدارس والخدمات.

ويبدو ذلك واضحا في اختيار المهندسين لموقع مواجه لقناة السويس لإقامة مستشفى القنال والمعروفة حاليا باسم رقم 6، وقد صممت لتطل مباشرة على مجرى القناة. وكانت فكرة المعماريين في ذلك الوقت أن المنظر الطبيعي الذي سيشاهده المريض ومرور السفن داخل هذا المجرى الضيق سيبعث فيه الأمل ويعينه في التغلب على آلامه.

ولم يختلف شكل مباني المستشفى الخارجية عن شكل باقي المباني بالمدينة، فكان كل مبنى من دورين وتحيطه البلكونات الخشبية من جميع الأنحاء المبنى، في مزيج معماري يطل منه الأرابيسك بعبقه الإسلامي الفريد، والقرميد الفرنسي بحمرته الجذابة.

وتقول لمياء إبراهيم مذيعة بالقسم الإنجليزي بالإذاعة المصرية، وقد تربت في إحدى هذه الفيلات منذ ولادتها حتى تم تخرجها في الجامعة: «كل مبنى يتكون من دورين وتتميز الغرف داخل المساكن بكبر حجمها وكثرة أعدادها، وقد صمم المسكن ليكون الدور الأرضي لاستقبال الضيوف، حيث توجد به صالة كبيرة تسع لنحو 3 جلسات مختلفة بالإضافة لحمام ومطبخ وغرفة مغلقة لمبيت الضيوف. وتتكون أرضيات المبنى من الخشب الباركيه. وفي كل مسكن يلاحظ وجود مدفأة مصنعة من الرخام والجرانيت لاستخدامها في أوقات البرد.

وتواصل لمياء وصفها للمسكن الإداري الذي كانت أسرتها تقطن به لأكثر من 25 عاما حيث كان يعمل والدها مديرا بإحدى إدارات هيئة قناة السويس عقب التأميم في يوليو 1956: في الطابق الثاني الذي يربطه بالطابق الأرضي سلم داخلي مصنع من الخشب الزان يوجد من ثلاث إلى خمس غرف طبقا لمساحة الفيلا، ويخصص للمعيشة ويحيط بالمبنى من جميع الجهات بلكونات تطل على كافة الاتجاهات الأربعة يمكنك من إحدى الجهات متابعة سير السفن والقوافل بالقناة. وفي حديقة المسكن التي تحده من جميع الجهات أجود أنواع الأشجار المثمرة من المانجو والجوافة والليمون وأشجار الجهنمية ذات اللون الأحمر التي تضفي انعكاسا في ألوانها مع ألوان التصميمات الزخرفية بنية اللون.

اشترط المهندسون الفرنسيون عند تصميم منطقة الفيلات الفاخرة بالإسماعيلية ألا تزيد نسبة المباني على 25 في المائة من مسطح الأرض، وأن يكون كل مبنى لساكن واحد، وأن تمتد الحديقة لثلاثة أضعاف مساحة المبنى، وتكون ذات سور عال حفاظا على الخصوصية داخلها.

وما زال هذا النمط سائدا حتى الآن، ولم تقتصر تلك الاشتراطات على مناطق الفيلات فقط، بل شملت أحياء الطبقة المتوسطة، كما خصصت مناطق فيلات بسيطة ليقيم فيها مهندسو ومخططو المدينة والخبراء.

زينت واجهات الفيلات بواجهات رخامية على نمط العمارة الأوروبية، كما تم عمل السقف بالقرميد الأحمر المائل مثل سقوف منازل الريف الفرنسي والتي صممت بهذا الشكل للتخلص من الأمطار.

ويذكر كتاب «بوابة مصر الشرقية» أن الإسماعيلية كانت قبل هذا التاريخ مجرد قرية بسيطة يطلق عليها قرية التمساح، وأعطى ذلك حرية كاملة للمخططين للعمل في فضاء مفتوح، ساعدهم في وضع المواصفات وقوانين البناء في مجتمع عمراني جديد.

وأعطى الخديوي إسماعيل صلاحيات لمخططي المدينة، فوضعوا قوانين واشتراطات البناء على أسس سليمة، وفقا للأسس المعمارية التي كانت سائدة في المدن الكبرى بأوروبا وفي مقدمتها باريس، حيث أفرزت نموذجا معماريا فريدا هو خليط من الحضارة الغربية والعربية.

وعقب تولي الإدارة المصرية لدفة القناة بعد قرار التأميم ورفض العشرات من الموظفين الأجانب المتآمرين على الإدارة المصرية العمل لإثبات عجز الإدارة المصرية عن قيادة المرفق العالمي، اتجهت الإدارة المصرية لتعيين كوادر المصريين للعمل في القناة وتم تسكينهم داخل الفيلات التي ملأت حي النخيل.

واستمر الحال في محاولات من الإدارة المصرية للحفاظ على التراث الحضاري، كما حافظت على سير حركة الملاحة الدولية حتى كان الاعتداء الإسرائيلي على سيناء في يونيو 1967 وقصف مدن القناة وتوقف الملاحة بقناة السويس وهجرة أهالي المدينة كبقية مدن القناة إلى محافظات أخرى.

وعقب انتصار أكتوبر وعودة المهجرين إلى موطنهم الأصلي لم يكن هناك مكان إلا وكان شاهدا على الدمار وبخاصة مبنى هيئة قناة السويس، بطرازه المعماري الفريد، وتعرض المبنى لعمليات ترميم وصيانة شابتها الكثير من الأخطاء، بخاصة في شكل هيئته الداخلية، لكن الشكل الخارجي ظل كما هو.

وتحتفظ منطقة النخيل بالإسماعيلية بالشكل الخارجي الذي يميزها، ومن الوهلة الأولى للتجول بشوارع الحي، تشعر أنك أمام تراث حضاري عتيق رغم حداثة المدينة.

ويعتبر قصر المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس أشهر تراث خديويّ موجود بالإسماعيلية، وهو تحفة فنية ومعمارية مزينة بالزخارف الخشبية والقرميد وفي المقابل منه تقع مدرسة القديس فانسيه.

ويتلاصق مع قصر المهندس ديليسبس مبنى إدارة مرفق قناة السويس، وقد صمم خصيصا في هذا المكان ليراقب ويتابع عن بعد حركة مرور السفن بالمجرى الملاحي. وأقيم المبنى وملحقاته على مساحة تعدت 3000 متر تقريبا تحاط بها الحدائق والأشجار النادرة من جميع الجهات، ويتوسط مدخل المبنى نافورة صنعت من الفسيفساء وصمم بوجهة خشبية تمتد لمسافة 100 متر تقريبا تتزين بالزخارف والأخشاب المحفورة ويعتليها القرميد الأحمر لتبدو كتحفة فنية.