أوركسترا «سانتا شيشيليا» تعزف أصعب قطعة في تاريخ الموسيقى

أنشئت قبل 100 عام وقائدها بابانو يواجه أكبر تحد في حياته الموسيقية مع بيتهوفن

أوركسترا «سانتا شيشيليا» العريقة تعزف في وسط روما («الشرق الأوسط»)
TT

بدأ الموسم الموسيقي في العاصمة الإيطالية هذا الشهر وعادت أوركسترا «سانتا شيشيليا» العريقة إلى جذب الموسيقى الكلاسيكية في العالم إلى الأمام بعد طول غياب، وفوجئ الجميع بفوزها بأحسن تسجيل على الأسطوانات المدمجة لعام 2009 حسب تصنيف مجلة «غرامافون» الإنجليزية المعروفة. يعود الفضل في ذلك إلى تحسن مستوى أداء الفرقة الموسيقية التي أنشئت قبل مائة عام على يد قائدها الموفق أنطونيو بابانو في تسجيل أوبرا «مدام بترفلاي» للموسيقار بوتشيني مع نجمي الأوبرا هذه الأيام أنجلا غيورغيو (من رومانيا) ويوناس كوفمان (من ألمانيا). ويعرف المتابعون للإنتاج الموسيقي أن أوركسترا «سانتا شيشيليا» لم تفز بجائزة مماثلة منذ الخمسينات، وأن بابانو يعمل أيضا كقائد لأوركسترا الأوبرا الملكية (كوفنت غاردن) في لندن، فهو إيطالي وُلد في إنجلترا قبل خمسين سنة.

يذكر برونو كاليي رئيس أكاديمية «سانتا شيشيليا» للموسيقى الذي أغرى بابانو بالانتقال إلى روما، أن المايسترو الصاعد بسرعة الصواريخ يحب التحديات ولذا أقدم على افتتاح الموسم الحالي بأصعب قطعة في تاريخ الموسيقى وبخاصة لغناء الجوقة الموسيقية وهي «القداس المهيب» (ميسا سوليمنيس) للموسيقار الأصم والأشهر في تاريخ الموسيقى لودفيغ فان بيتهوفن، واستحضر أحد كبار قادة الكورس في العالم وهو النمساوي نوربرت بالتاش (81 سنة) من دار أوبرا فيينا ليشرف على جوقة «سانتا شيشيليا»، وكانت النتيجة حين سمعناها أكثر من رائعة. يقول بابانو «إن الموسيقى الكلاسيكية ليست مضجرة كما يتراءى للبعض بل هي جميلة، ففيها الإيقاع والنغم العذب والفرح والمأساة والحب والكراهية والخشوع والعاطفة».

وكان اختياره موفقا لهذه القطعة الدينية من حيث المضمون والقدرة الأسرة من الناحية الفنية، فهي قطعة بديعة قلما يمكن سماعها نظرا إلى عسرها وعمقها وصعوبة حل ألغازها رغم انقضاء 186 سنة على تأليفها خلال خمسة أعوام ومدة عزفها التي تقارب ساعة ونصفا دون انقطاع، وقد ألفها بيتهوفن في أواخر حياته وعُزفت لأول مرة في سان بطرسبرغ في روسيا عام 1824 وتتحاشى الفرق الموسيقية الشهيرة عزفها رغم قربها من ألحان وغناء الحركة الأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن التي أصبحت ما يشبه النشيد الوطني الأوروبي منذ انهيار جدار برلين قبل عشرين عاما. يكمن سر صعوبة العزف في طريقة بيتهوفن في تأليف هذه القطعة حيث يمزج أحيانا ستة ألحان في وقت واحد بشكل منسجم يذكّر المستمع بالموسيقى القديمة التي ابتكرها الموسيقار الإيطالي باليسترينا حين عمد قبل خمسة قرون إلى أسلوب تعدد النغمات والأصوات. يمكن وصف أسلوب بابانو في القيادة بأنه ناضر وجزل ومفعم بالنشاط كما أنه يتخطى حدود التضرع والتمجيد والطقوس ليصل إلى مزج الموسيقى الدينية بالموسيقى الحية العادية وابتداع فني جذاب يجعل المستمع قوي الإحساس بتأثير الموسيقى والألحان والصوت البشري ليدخل في حالة من الطرب والابتهاج.

خصص بابانو الحفلة الثانية هذا الموسم للموسيقى الروسية واختار الكونشرتو الرابع للبيانو والأوركسترا للموسيقار رخمانينوف بمصاحبة النجم الساطع هذه الأيام للبيانو العازف النرويجي لايف أوفيه أندسنيس، وهي قطعة نادرة أيضا ألفها الموسيقار الروسي في أثناء إقامته في أميركا عام 1926 ولم تعزفها أوركسترا «سانتا شيشيليا» سوى مرتين في تاريخها، وكانت المرة الأخيرة قبل 43 عاما، وأتبع ذلك بالسيمفونية الرابعة المعروفة لتشايكوفسكي.

وأثبت نجاحه في كل ما يمر من تحت يده، فهو موسيقي محترف من الطراز العالي وخبرته التي كوّنها في لندن وبروكسل وأوسلو وفيينا ونيويورك كانت خير هدية لأوركسترا العاصمة الإيطالية التي عادت لتنافس الفرق الكبيرة الأخرى وتمكنت أيضا من الفوز بتسجيل جديد لموسيقى فيردي والحصول على الجوائز العالمية.

يقول بابانو إنه يقسم وقته الآن بين لندن وروما وقد استأجر شقة جميلة في وسط العاصمة الإيطالية التاريخي لأنه لم يتمكن من شراء أي عقار مناسب في روما لارتفاع الأسعار رغم الأزمة المالية العالمية لكنه نجح في العثور عل منزل جميل في همستيد إحدى ضواحي لندن الراقية بسعر معقول. ويضيف قائلا إن أكبر متعة له ـ بالإضافة إلى قيادة الأوركسترا ـ هي إلقاء المحاضرات في حديقة الموسيقى في وما حيث يقع مقر أكاديمية «سانتا شيشيليا»، وكانت آخر محاضراته عن «المرأة البطلة في أوبرات الموسيقار بوتشيني». واللافت للأنظار أن تذاكر الحضور بيعت على الفور ونفدت تماما مثلما تنفد تذاكر الحفلات الموسيقية التي يقودها بابانو، فالشعار الدائم حوله «لم يبقَ محلات».