اسكوتلندا توجه الليزر صوب المعالم الأثرية لتساعد على ترميمها

يتم بفضلها إنتاج نماذج ثلاثية الأبعاد أفضل بملايين المرات من الصور الفوتوغرافية أو الأفلام

مقطع عرضي لكنيسة روزلين في اسكوتلندا التي سُجل أدق تفاصيلها خلال ثوان باستخدام أشعة الليزر (نيويورك تايمز)
TT

عندما يأتي شهر أبريل (نيسان)، سوف يغادر فريق صغير من الخبراء من أكاديمية غلاسغو للفنون، وهيئة التراث الحكومية «هيستوريك اسكوتلندا» إلى داكوتا الجنوبية بناء على طلب منظمة «سي آرك» وهيئة المتنزهات القومية الأميركية لعمل مسح ضوئي وإعداد نماذج حاسوبية للنصب التذكاري بجبل راشمور.

وبغض النظر عن بعض الدماء الاسكوتلندية التي لثلاثة من الرؤساء الأربعة المبجلين في ذلك النصب التذكاري (يُستثنى من ذلك لينكولن)، فلا يوجد ما هو اسكوتلندي في تلك المواقع الأميركية الأثرية. ولكن الخبرة الثقافية تتجاوز الحدود القومية. وسوف يقضي الفريق الاسكوتلندي المكون من أربعة أو خمسة خبراء عدة أيام في اختيار المواقع ونصب الماسحات الضوئية لاستكشاف تفاصيل جبل راشمور كافة وجمع المليارات من المعلومات الرقمية التي سوف يتم إعادتها إلى هنا لفحصها وفرزها من خلال الحاسوب.

وبعد ذلك يتم إنتاج نماذج ثلاثية الأبعاد واضحة ودقيقة وتحتوي تفاصيل أكثر دقة ملايين المرات من أفضل الصور الفوتوغرافية أو الأفلام، حيث يمكن أن يستطيع المسح الضوئي أن يصل بدقة إلى أصغر جزء من المليمتر.

وفي عصر الرسوم المتحركة الحاسوبية، وفي العالم الذي يتجول فيه مستخدمو الحاسوب في عوالم افتراضية بمجرد ضغطة زر، لعله لا يبدو إنتاج نماذج حاسوبية باستخدام الماسحات الضوئية لأحد الآثار القديمة أمرا ذا أهمية خاصة ولكن الفريق الاسكوتلندي استطاع الوصول إلى مستويات غير مسبوقة من الدقة في إنتاج تلك النماذج. فمن خلال المسح الضوئي، يستطيع الخبراء أن يصوروا لنا كيف كانت تلك الآثار قبل عصور مضت وذلك من خلال استخدام مؤثرات تستطيع عكس آلة الزمن بالنسبة إلى هذه الآثار العتيقة. كما يمكنهم محاكاة تأثيرات التغير المناخي والتأثيرات التي أحدثتها المدنية أو تأثير الكوارث الطبيعية أو الكوارث التي تسبب فيها الإنسان على مواقع أثرية مشابهة.

كما يمكنهم عند تشييد بناء جديد في مدينة مثل إدنبرة، أن يصنعوا نماذج افتراضية تحاكي الواقع بدقة متناهية حتى يتمكن المشاهدون من أن يتخيلوا كيف سيكون شكل البناء من الزوايا كافة بما في ذلك الظلال التي سوف يعكسها في مختلف أوقات النهار.

وليست هذه التكنولوجيا الجديدة جديدة أو مقتصرة على اسكوتلندا، ولكن فريق غلاسغو من طليعتها الثقافية. ويعد المعماري دوغلار بريتشارد كندي المولد هو العنصر الرئيسي خلف الاستديو الرقمي للتصميم بأكاديمية الفنون. وهو يترأس بعثة الليزر الاسكوتلندية مع دايفيد ميتشيل مدير مجموعة الحماية الفنية لتاريخ اسكوتلندا.

وفي وصفه للسرعة التي تطورت بها النماذج الضوئية والمدى الذي يمكن أن تصل إليه، قال السيد بريتشارد: «لم نعد على بعد مليون ميل من حجرات المحاكاة التي ظهرت بمسلسل (ستار تريك)». وكان جادا تماما.

وذلك حيث إن التداعيات الثقافية لتلك التكنولوجيا ضخمة للغاية كما هو الحال بالنسبة إلى التداعيات السياسية لاسكوتلندا التي دفعت فريق الليزر للعمل من خلال وزير الثقافة مايكل راسيل. يُذكَر أن فريق بريتشارد بمدرسة الفنون بدأ قبل ثلاث سنوات مسح المنطقة الخضراء بوسط غلاسغو التي تقع إلى جانب نهر سلايد، وقد استطاع خلق عروض ثلاثية الأبعاد لنحو 1400 مبنى وعشرات من الشوارع المجاورة. وقد لفت ذلك انتباه السيد ميتشيل الذي طلب من السيد بريتشارد أن يقوم بعمل مسح ضوئي لجسر حديدي متهدم في دندي والذي كان من المستحيل عمل تصوير دقيق له دون استخدام الليزر. وقد أدى مشروع المسح الضوئي للجسر إلى عمليات مسح لقلعة ستيرلينغ، وكنيسة روسلين، تحفة القرن الخامس العشر القوطية التي دفع فيلم «شفرة دافنشي» مؤخرا إليها بموجات من السائحين المولعين بالمؤامرات التي طرحها الفيلم، حيث حاول أحدهم أن يدق بعنف على ما يطلق عليه عمود المتدربين لأنه كان مقتنعا بأن الكأس المقدسة تم إخفاؤها بداخله.

لم يتأذَّ العمود، ولكن تلك الحادثة ـ وفقا للسيد ميتشيل ـ لفتت الانتباه إلى ضرورة القيام بعمليات المسح الضوئي. فيقول: «هل تتذكر ويندسور؟»، في إشارة إلى الحريق الذي اندلع في 1992 وحرق أجزاء من القلعة الملكية البريطانية، «إذا كان لدى المرممين صور ضوئية، لكانوا تمكنوا من إعادة بناء كل شيء بدقة متناهية، ولكنهم بدلا من ذلك اعتمدوا على محاكاة الصور الفوتوغرافية». وذكر كذلك حادثة تفجير حركة طالبان لتمثال بوذا في أفغانستان في عام 2001.

والمبادئ الأساسية التي تقف خلف تكنولوجيا الليزر بسيطة: صندوق بداخله ليزر، ينتصب على حامل ثلاثي الأرجل. وفي الوقت الذي يتحرك فيه الصندوق ببطء وبزاوية 360 درجة، ويرتفع إلى أعلى ويهبط إلى أسفل، يطلق أشعته تجاه أي كتلة تقع في مجاله، وبذلك، يستطيع تسجيل نحو 50 ألف نقطة كل ثانية. قد يستطيع الباحثون التقليديون إنتاج نحو مائتين من تلك الصور يوميا وهي عرضة للانحياز والخطأ البشري، ولكن الليزر يستطيع جمع ملايين الصور في الساعة، بل إن الماسح الضوئي يستطيع تعرُّف مواد معينة ويحدد إذا ما كان ذلك الشيء مصنوعا من الزجاج أم من الحجر.

وتعمل أجهزة الماسح الضوئي الهوائية أو الأجهزة التي يتم حملها باليد بنفس الطريقة، ومعا يمكنهما إنتاج صور ثلاثية الأبعاد لمدينة بأكملها أو لجبل مثلما الحال بالنسبة إلى جبل راشمور.

وفي الربيع، وفي مؤتمر للتوثيق الرقمي في غلاسغو، التقى راسل مع بن كاكيرا المهندس الأميركي ومخترع الماسح الضوئي. وذلك حيث إن كاكيرا قد أنشأ مؤسسة «سي آرك» غير الربحية بعدما تَعرّض تمثال بوذا في أفغانستان للدمار كي تقوم بعمليات مسح ضوئي لنحو 500 موقع أثري ضمن مجموعة المواقع الأثرية للتراث العالمي التابعة لليونسكو.

وقد بدأ الفريق الاسكوتلندي في مسح خمسة مواقع اسكوتلندية أثرية (مدينة إدنبرة القديمة والجديدة، آثار أوركني التي تعود إلى العصر الحجري، وجزيرة سانت كيلدا، ولانارك الجديدة وحائط أنتوني، والأطلال الرومانية القديمة)، بالإضافة إلى خمسة مواقع أخرى. وبما أنهم كانوا قد تواصلوا بالفعل مع هيئة المتنزهات حول المسح الضوئي لجبل راشمور، قررت «سي آرك» أن يبدأ فريق العمل لديها من هناك.

ما التداعيات الثقافية الكبرى؟ بالنسبة إلى المبتدئين، تحدث السيد بريتشارد حول «نوع جديد من التمكين»، في إشارة إلى فكرة استخدام النماذج الافتراضية الحقيقية التي تتيح للأشخاص العاديين الحكم على أنواع الخطط المدنية المقترحة كافة، حيث سيتم استبدال نماذج أكثر دقة وأسهل في الفهم وأكثر محايدة في إطار دمقرطة المعرفة، بالرسوم والنماذج الحاسوبية الذين يقدمهما المعماريون إلى العملاء.

كما أن فوائد تخزين وتوزيع مجسمات لأكثر المواقع الثقافية العالمية أهمية بتكلفة منخفضة (الميزانية الثانوية للفريق الاسكوتلندي تقل عن نصف مليون دولار) واضحة.

فعلى سبيل المثال، عرض لنا بريتشارد على الكمبيوتر المحمول الخاص به أطلال الأثر الفيكتوري «نافورة بيسلي»، حيث تم إعادته افتراضيا إلى حالته الخضراء البراقة ويرجع الفضل في ذلك إلى بعض رسومات المرممين الاسكوتلنديين. فعندما تم جمع تلك الرسوم مع الصور الضوئية، استطاعوا استنتاج كيف كان شكل النافورة الأصلي. فلم يكن أحد يتخيل أنها كانت براقة إلى هذا الحد، ولكن وفقا للسيد بريتشارد فإن «التكنولوجيا لا تكذب». ثم عرض لنا نموذجا افتراضيا لزوارق الكانوي أو «واكا» التي اشتراها متحف اسكوتلندا القومي كأجزاء قبل فترة ليست بالبعيدة ولم يتم تجميعها قبل ذلك. وقد أثبت المسح الضوئي أنه لا يمكن أبدا جمع تلك القطع في زورق واحد حيث إنها لا تنتمي إلى نفس الزورق.

وقد لفت ذلك العرض الانتباه إلى مجال جديد تماما بالنسبة إلى المستكشفين، كما أنه عالمي وذو جاذبية، حيث يمكن فيه مشاركة التطور والمعلومات الثقافية، واختلاس النظر إلى الماضي. وفي الوقت الراهن في لندن يوجد معرض للوحات للفنان البريطاني ألماني المولد فرانك أورباخ في الفترة من الخمسينات وأوائل الستينات، وهو يقدم صورا رائعة تُظهِر عملية إعادة بناء المدينة من الصفر بعد الحرب.

وفي ذلك الوقت، دفع الخراب والموت الحداثيين في منتصف القرن إلى التفكير في مدنية جديدة وبداية جديدة تقوم على التقدم الصناعي والخسارة كذلك. ولكن ذلك كان قبل نصف قرن. وقبل أن تقدم تقنيات الليزر الجديدة وسيلة للحفاظ على المدن واستعادتها كما كانت تماما. فهذه التكنولوجيا الجديدة تعد بأن يبقى العالم كما لو كان محفوظا في الكهرمان، حيث أصبح من الممكن تقديم ماضٍ افتراضي لا يموت أبدا.

* خدمة «نيويورك تايمز»