القرصنة الإنترنتية تفتح شهية المحتالين في الثراء السريع

يلقون شباكهم في بحر معلومات يتسع لـ200 مليار رسالة إلكترونية يوميا

أعلن نيل كودين مدير تنفيذ القوانين في مركز دبي المالي العالمي أن القوانين الدولية لا تزال عاجزة عن ملاحقة جرائم الاحتيال الإلكتروني
TT

يجلس صبية لم تتعد أعمارهم السابعة عشرة في مقاهي الإنترنت المنتشرة في مدينة دكرنس شمال القاهرة، في محاولات جريئة لاستكمال طريق أقران لهم يفوقونهم سنا بنحو ثلاث أو أربع سنوات، للحصول على أموال بالاحتيال على التكنولوجيا الكمبيوترية والاتصالات الإنترنتية.

المحاولات لا تنقطع إلا بانقطاع خدمة الإنترنت ساعة أو ساعتين كل أسبوع تقريبا، على الرغم من أن أقرانهم الذين سبق ونجحوا بالفعل بالتعاون مع شبان أميركيين في اقتناص ملايين الدولارات من بنوك أميركية، يقبعون الآن في السجن انتظارا لإحالتهم إلى المحاكمة في كل من القاهرة وواشنطن، سواء المصريون المقبوض عليهم في دلتا مصر، أو الأميركيون المقبوض عليهم في عدة مدن بالولايات المتحدة.

وفي مناطق كثيرة من العالم، حيث أصبح بحر الإنترنت يتسع لنحو 200 مليار رسالة إلكترونية يوميا، يلقي قراصنة شباكهم لاصطياد من تلقي به المقادير في طريقهم. ويقضي مثل هؤلاء المحتالين شهورا ينتظرون على شواطئ شاشات الحواسب انتظارا لثراء سريع، وأحيانا يخرج الصياد الماهر بألوف الدولارات خلال أيام فقط.

وفي منطقة الشرق الأوسط تحقق السلطات، طوال الشهرين الأخيرين، في عدة وقائع احتيال باستخدام الإنترنت في الإمارات والأردن ومصر، وكان أغلبها جرائم غير مرتبطة بجنسية أو حدود، حيث يتعاون القراصنة من خلال شبكة المعلومات الدولية، ومواقع الدردشة، وفق نظم من السرية والنظام الشديد في العمل بطريقة تشبه عمل عصابات المافيا.

«توجد زيادة في نشاط مجرمي الإنترنت.. كما أن رسائل البريد الإلكترونية التطفلية ستظل في ازدياد. إنهم يعملون مثل الشركات الناجحة». هكذا يقول مسؤول في شركة «سيسكو» الدولية المتخصصة في قطاع حلول الشبكات، بعد أن كشفت أخيرا عن تقرير يقول إن مثل هؤلاء المجرمين تمكنوا من شغل نحو 90 في المائة من حجم البريد الإلكتروني المرسل في أنحاء العالم، أي نحو 180 مليار رسالة إلكترونية تطفلية يوميا.

وبينما حكمت محكمة في الأردن بسجن ثلاثة لاستخدامهم تقنية الاتصال في السطو على حسابات عملاء بنوك، فقد أعقبها بعدة أيام إحباط السلطات في دبي عملية احتيال إنترنتية أواخر الشهر الماضي، وهذه العملية الأخيرة كانت تشبه ما قام به الشبان المصريون في مدينة دكرنس، شمال القاهرة.

مدينة دكرنس التي حولها قراصنة صغار إلى أشهر مدينة تقتحم حسابات عملاء بنوك في الولايات المتحدة، تتميز بالهدوء.. شوارعها تكاد تكون خالية. وسيلة المواصلات الأولى فيها هي الـ«توك توك» الذي يسير على 3 إطارات. لا يوجد في هذه المدينة أي مصانع، ولا حتى ناد اجتماعي. وتعد تجارة السلع والخدمات، ومنها مراكز الاتصالات، والإنترنت، النشاط البارز في الشوارع الرئيسية للمدينة.

وألقت السلطات في مصر القبض على 23 متهما بالقرصنة، فيما ألقت سلطات الـ«إف بي آي»، القبض على نحو 50 من شركائهم الأميركيين في الولايات المتحدة.

وما قام به هؤلاء المتهمون باللصوصية عبر الإنترنت أصبح ملهما للصوص صغار آخرين في مناطق مختلفة من العالم، خاصة بعد أن تمكنوا من تحقيق ثراء سريع ولافت للنظر، قبل أن يقعوا في يد الشرطة، ويقرر عمرو ممدوح، قاضي المعارضات بمحكمة المنصورة الابتدائية، استمرار حبس المتهمين المصريين من أبناء دكرنس لمدة 15 يوما على ذمة التحقيق.

وبحسب مصادر أمنية فإن المتهمين المصريين كانوا يلتقون في مقاعد الجامعة، وبعضهم كانوا زملاء من أيام المدرسة الثانوية. ومع أنهم عملوا في النشاط نفسه، إلا أنهم كانوا ينقسمون إلى مجموعات لا مجموعة واحدة.. تماما مثل نشاط المافيا الشهير في أفلام السينما.. مجموعة مهمتها حل المشاكل التقنية، وثانية مهمتها العمل على الاتصال بالضحايا، وثالثة مهمتها تلقي الصيد الثمين، ورابعة مهمتها توزيع الغنائم.

طالب بكلية الطب يدعى (م)، من مدينة دكرنس، يجري التحقيق معه حاليا، بعد أن احترف تحصيل الدولارات التي يقتنصها من حسابات عملاء بنوك، عبر الإنترنت، حتى اشتهر بين أقرانه باسم «م.فيزا». أما زميله (أ)، المعروف بفقره لأهل الضاحية التي يعيش فيها، أصبح، بعد أن احترف الصيد من بحر الإنترنت، يقص شعره على طريقة «سبايسي»، بمبلغ 200 جنيه مصري (نحو 35 دولارا)، في المرة الواحدة. وتمكن من سداد مبلغ 29 ألف جنيه تعويضا لمكتب تأجير سيارات في دكرنس، لتسببه في إتلاف سيارة تابعة لهذا المكتب.

تحقيقات الشرطة تقول إن «م.فيزا»، و«أ.سبايسي»، شكلا مجموعتهما المستقلة، بضم 4 شبان آخرين إليها. مهمة هذه المجموعة بيع تذاكر السفر التي يشتريها باقي أفراد عصابة القرصنة الإنترنتية، باستخدام حسابات عملاء في بنوك أميركية. وبعد أن ازداد عدد التذاكر، لدرجة لم تتسع لها مدينة دكرنس بطابعها الريفي، انتقل «م» و«أ» إلى الإقامة في مدينة الإسكندرية، القريبة ذات الطابع التجاري والسياحي، لبيع التذاكر لمكاتب سياحة، وأصبح لهما وكلاء يحصلون على عمولة مقابل بيع عدد كبير من هذه التذاكر.

ويقول صبي لا يزيد عمره على سبعة عشر عاما، في دكرنس، وهو يتدرب مع زملاء له على طرق احتيال إنترنتية جديدة يعتقد أن الشرطة لن تكتشفها، إن السجن سنة أو سنتين، مقابل ربع مليون دولار، أمر لا بأس به، ومقبول.. «حين أقول ذلك لوالدتي تلتزم الصمت». ويقول أيضا إن مثله الأعلى في هذا جار له يجري التحقيق معه حاليا.

الجار الذي تقرر حبسه أيضا على ذمة تحقيقات نيابة المنصورة من أسرة متوسطة كانت تمتلك ماكينة لتشكيل الحديد الصلب، وأصبحت، بفضل الدولارات، تمتلك ماكينتين. وحاز هذا على شهرة كبيرة بين شبان مدينة دكرنس، المجاورة للمنصورة، ممن احترفوا القرصنة الإلكترونية.

وتشير التحقيقات إلى سحب هذا الأخير آلاف الدولارات من حسابات عملاء ببنوك أميركية عبر الإنترنت.. ولحظة القبض عليه كانت لديه وديعة مالية في البنك قدرها 250 ألف دولار أميركي، إضافة لسيارتين من نوع BMW، كما عثرت الشرطة على 25 ألف دولار أميركي أثناء تفتيش منزله.

رجال الشرطة في الدلتا، وفي إطار استمرارهم في اصطياد مزيد من المتهمين، ألقوا القبض الأسبوع الماضي على شاب آخر يدعى «ع»، بعد أن افتتح مكتبا لتأجير السيارات. وجمع «ع» 450 ألف دولار من الاحتيال الإلكتروني، بحسب التحريات المبدئية لرجال الأمن، إلا أن جيرانه يقولون إنه بدد معظم أمواله على السهرات وتأجير السيارات والإنفاق ببذخ.

أسهل طرق الإيقاع بالضحايا، الحصول على معلومات الفيزا لعملاء من مواقع البنوك العالمية أو موقع التسوق ebay الشهير، وذلك عن طريق البريد الدعائي المعروف باسم «سبام».. ويضيف خبير استعانت به الشرطة المصرية في فك لغز قضية قرصنة، أن القراصنة يقومون بعد ذلك بحجز هوست (موقع استضافة) على شبكة الإنترنت، وحجز اسم على الشبكة مقارب لاسم موقع البنك الذي سيتم السطو على أموال عملائه. «هذا يحتاج لبرامج إرسال إيميلات جماعية، مثل ماس ميلر، التي يمكنها إرسال مليون بريد إلكتروني دفعة واحدة، أما الإيميلات المستهدفة فيتم الحصول عليها من خلال تحميل قواعد بيانات الموقع المستهدف أو مواقع أخرى بعد اختراقها».

ويضيف الخبير أن بعض القراصنة يقدمون أنفسهم للضحايا كموظفين في البنك الذي يتعاملون معه. ويرسلون رسائل بأن البنك قام بوقف الحساب حتى يقوم العميل بالدخول على الرابط (المزيف) لكتابة البيانات الصحيحة، لإعادة تشغيل الحساب مرة أخرى، و..«في هذه الحالة يرتبك العميل، ويضع كل البيانات بما فيها كلمة السر الخاصة به، ويرسلها جميعا إلى البريد الإلكتروني الخاص بالقراصنة عن طريق سكريبت يتم تركيبه في صفحة الموقع المزيف، ليحصل هؤلاء المخادعون بعدها على ما شاءوا من أموال الضحية».

في كثير من بلدان العالم، كما حدث في دكرنس، يستغل مرسلو الرسائل الإلكترونية التطفلية المناسبات والكوارث، لإغراء المستخدمين على الدخول إلى رسائلهم، وبالتالي اختراق أجهزتهم للوصول إلى ما عليها من معلومات. فعند بداية الهلع العام في العالم من مرض إنفلونزا الخنازير، قام مجرمو الشبكة بتغطيتها برسائل البريد الإلكترونية التطفلية، معلنين عن عقاقير للوقاية، وروابط بأسماء صيدليات وهمية، للوصول إلى ملايين أجهزة الكمبيوتر بعروض مبيعات شرعية أو روابط تحيلهم إلى مواقع إنترنتية ضارة.

المحامي المصري ضياء خليل، الذي يتولى الدفاع عن عدد من المتهمين بالقرصنة الإنترنتية، يقول إن المشكلة التي تواجه السلطات الآن هي التكييف القانوني للتهم المنسوبة لمثل هؤلاء الشبان، قائلا إن «هذا النوع من الجرائم جديد في مصر، وإصدار قانون يجرم القرصنة الإلكترونية لم يحدث إلا أخيرا، والقاعدة القانونية تقول إنه لا جريمة إلا بنص قانوني».

ويعكف المحامي ضياء الآن ضمن أكثر من 20 محاميا من نقابة المحامين الجزئية في دكرنس، على دراسة قانون جرائم الإنترنت، لتوصيف القضية توصيفا قانونيا، ونوع المحكمة التي سيعرض عليها المتهمون.

وعما إذا كان يمكن لأميركا أن تطالب باستكمال محاكمة الشبان المصريين على أراضيها، قال ضياء: «المتهمون ألقي القبض عليهم على أرض مصر، وعليه المحاكمة يجب أن تكون في مصر، والعقوبة يجب أن تكون من خلال القوانين المصرية، لأن الجريمة ليست سياسية».

وبعد اكتشاف محاولة لعصابة إنترنتية الاستيلاء على أموال عملاء عبر الإنترنت، أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الشهر الماضي، أعلن نيل كودين، مدير تنفيذ القوانين في مركز دبي المالي العالمي، في تصريحات له أن القوانين الدولية لا تزال عاجزة عن ملاحقة جرائم الاحتيال الإلكتروني. ويقول مسؤول أمني مصري إن التعاون بين سلطات الدول في هذا المجال قادر على إحباط جرائم إنترنتية كثيرة، فمثلما تعاونت سلطات دبي مع كل من البورصة الأميركية، وهيئة المصارف الاتحادية السويسرية، في تتبع الجريمة الأخيرة، نجحت الشرطة المصرية بالتعاون مع نظيرتها الأميركية، في الإيقاع بقراصنة دكرنس وزملائهم الأميركيين.

ومثلما تعكف شركات الحماية الإنترنتية المتخصصة في تطوير برامج للحماية، يعمل القراصنة على ابتكار طرق جديدة لاختراقها. ومنذ بداية العام الحالي، أصبحت هناك حملتان أو ثلاث أسبوعيا تستهدف المتعاملين على الحواسب والأجهزة المتحركة التي تتصل بالإنترنت، مثل الهواتف النقالة التي يستخدمها نحو 4.1 مليار مشترك حول العالم.

المهندس هاني عبد العزيز، مدير شركة «سيسكو مصر»، قال في فعاليات خاصة بالإنترنت شهدتها القاهرة أخيرا، إن انتشار المجتمعات الإلكترونية أسهم في زيادة احتمالية قيام المستخدمين بالنقر على الروابط، وتحميل محتوى يعتقدون أنه أرسل إليهم عن طريق أناس يعرفونهم ويثقون بهم، مما يؤدى إلى نشر هجمات هذه البرامج عبر الشبكة. وأوضح أنه بخلاف الأفراد، أصبحت الشركات بحاجة إلى تبني طرق متطورة لمكافحة جرائم الشبكة الإنترنتية والبقاء يقظة لكل الهجمات الموجهة. وأضاف أن المجرمين يتعرفون سريعا على نقاط الضعف في الشبكات الإلكترونية وفى نفوس المستهلكين، ويقومون بتطوير أساليب تزداد تعقيدا لاختراق شبكات الشركات والحصول على البيانات الشخصية القيمة.