سعاة البريد في العراق.. مخاطرة في كل حي وحارة وشارع

العراقيون كانوا يتغنون بهم في السابق.. والآن قلما يرونهم

موظفان يفرزان البريد في مكتب بشارع حيفا في بغداد (أ.ف.ب)
TT

كان لساعي البريد في العراق أهمية كبيرة، بل أصبح تدريجيا بمثابة أحد أعضاء العائلة بالنسبة لجميع عائلات الحي التي يوصل إليها الرسائل والبرقيات. وكان ساعي البريد يعرف أسماء سكان الحي فردا فردا، ويحفظ عناوينهم من غير أن يقرأ أرقامها المثبتة على الرسائل، والأكثر من هذا وذاك، فإن ساعي البريد كان يتطوع، عندما يسعفه الوقت، لقراءة الرسائل لهذه الأم، أو ذلك الأب الذي لا يجيد القراءة، وبالتالي فإنه يتحول إلى أمين أسرار العوائل.

العراقيون كانوا يكافئون ساعي البريد عبر أساليب عدة، أبرزها تثبيت عبارة «شكرا لساعي البريد» على مغلف الرسالة، وهذه الجملة لازمة دفعت بعض المطابع التي تنتج مغلفات الرسائل البريدية إلى تثبيتها وطبعها على هذه المغلفات كجزء من متطلبات إرسال الرسالة، كما دخلت شخصية ساعي البريد في أحداث القصص والروايات والقصائد التي أبدعها أدباء العراق، مثلما دخلت شخصيته في الأغاني العراقية، وكانت أشهر أغنية للمطرب رضا الخياط هي «عيوننا تربي (تراقب) يا غالي.. تنتظر ساعي البريد».

لكن انتشار الإنترنت وأجهزة الهاتف الجوالة، ووسائل الاتصالات المتطورة الأخرى، قلل كثيرا من هذه الأهمية. وغير هذا، وبالنسبة للعراق خاصة، فإن الحروب والاحتلال الأميركي، والعمليات الإرهابية، والتفجيرات اليومية، حولت مهنة ساعي البريد إلى مغامرة حقيقية يصادفها في كل حي وحارة وشارع، ومتاعبها الإضافية أبعدت الكثيرين عن العمل فيها، والنتيجة هي أنه نادرا ما يُرى ساعي بريد يتجول في بغداد.

ويوضح كاظم سعيدي، المسؤول في دائرة البريد المركزي ببغداد، لـ«الشرق الأوسط» أساليب تنقل سعاة البريد، فيقول «هم إما يتنقلون على دراجاتهم الهوائية أو أن الأحياء التي غالبا ما يسكنها هؤلاء السعاة قريبة منهم فيقومون بتوزيع الرسائل سيرا على الأقدام»، مشيرا إلى أن «هؤلاء السعاة يتوكلون على الله في سيرهم اليومي وهم يحملون ربما مئات الأمنيات عبر رسائل وأوراق بين الأهل والأحبة من خارج وداخل العراق، إذ غالبا ما يحمل للناس خبرا مفرحا، وكان في السابق يحمل للخريجين على سبيل المثال أماكن تعيينهم الجديدة بعد تخرجهم في الجامعات عبر رسائل تقوم وزارة التخطيط من خلالها بإشعار الطلبة الخريجين بالمعلومات عن مواقع عملهم وفق أسلوب التوزيع المركزي».وحول أخطر مغامرة تعرض لها ساعي بريد عراقي، فإنها ما عاشه ساعي البريد موسى صلوص، الذي صادف وجوده في العاشرة والدقيقة العشرين صباح أحد أيام أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، في أحد المصارف قرب وزارة العدل وسط بغداد لإيصال الرسائل، لكن الأرض سرعان ما اهتزت تحت قدميه جراء انفجار هائل نجا منه بأعجوبة. ويقول صلوص، الذي جاب شوارع بغداد طوال 27 عاما لتوصيل الرسائل ورزم البريد، إن «الانفجار وقع بعد نحو خمس دقائق من عبوري جسر الشهداء، الحمد لله أنني لا أزال على قيد الحياة». ويضيف ساعي البريد الأعزب (56 عاما) لوكالة الصحافة الفرنسية، قائلا «لقد توسلوا إلي لأترك العمل وأبقى جليس المنزل، لكني عدت في اليوم التالي إلى مزاولة عملي، لقد اعتدنا على هذه الأحداث، ولم تعد مبررا لنتخلى عن العمل، أشكر الله الذي رحمني». ويعمل صلوص في مكتب بريد الصالحية (وسط بغداد) برفقة 46 موظفا آخرين.

من جهته، يقول عبد الحسين طعمة (54 عاما) «كنت قد سلمت للتو بريدا لوزارة الخارجية عندما وقع انفجار» هناك في 19 أغسطس (آب) الماضي. ويستعيد ساعي البريد الذي بدأ ممارسة مهنته قبل ثلاثين عاما ما حدث حينذاك قائلا «ركضت باتجاه جسر الجمهورية، وبعد أن قطعت مسافة كان الناس ينظرون إلي مرعوبين بسبب إصابتي بجروح في ذراعي ورجلي». ويضيف طعمة «طبعا، عدت في اليوم التالي إلى عملي، ماذا نفعل؟ لقد اعتدنا على هذا، فقد نجوت من الكثير من الانفجارات التي وقعت سابقا أثناء تجوالي».بدورها، تقول هناء علي، مديرة التخطيط في دائرة البريد، إن حجم الرسائل والطرود البريدية انخفض بين عامي 2002 و2008، من عشرة إلى خمسة ملايين. وتشير إلى أن المبالغ المحققة تراجعت إلى ثلاثة مليارات دينار (1.7 مليون دولار) فيما ارتفع عدد العاملين من 1600 إلى أكثر من 2800 بينهم 330 من سعاة البريد، في حين كان عددهم 150 فقط قبل سبع سنوات.

ومنذ اجتياح العراق عام 2003، قتل ثلاثة من العاملين في البريد جراء انفجارات كما اغتيل ثلاثة آخرون جراء أعمال عنف طائفي، كان آخرهم محمود نايف محمود الذي لقي مصرعه العام الحالي في حي الأعظمية في شمال بغداد. من جانبه، يقول رئيس فريق سعاة البريد في مكتب الصالحية عبد الرزاق طالب إنه طالما تعرض لخطر الاشتباكات المسلحة لدى تجوله، خصوصا في شارع حيفا الذي كان أخطر شوارع بغداد قبل ثلاثة أعوام، لكن الانفجارات هي أكثر ما يخشاه ويضيف طالب (43 عاما) «أثناء عام 2006، عندما كنت على دراجتي النارية مع صديقي رشيد لإيصال بريد وقوائم حساب الهاتف، نصحنا جنود أميركيون بالعودة أو المغادرة لأن الاشتباكات ستندلع» في المكان.

ويقول طالب، الذي يمارس عمله منذ تسعة أعوام «قدموا لنا نصيحة لأنهم يعلمون أننا لا نمثل أي طرف في الصراع، لكن الانفجارات مخيفة فعلا، فقد شعرت بالخوف عندما فجر انتحاري نفسه في أحد مطاعم شارع الشواف، بعد ثوان من عبوري» المكان.

يذكر أن هجوما انتحاريا استهدف في 19 يونيو (حزيران) 2005، مطعم «ابن زنبور» قرب المنطقة الخضراء، مما أدى إلى مقتل 23 شخصا بينهم ستة من عناصر الشرطة. ويختم طالب حديثه مبتسما «إنها معجزة، هناك قليل من الضحايا في مهنتنا رغم العدد الكبير من الانفجارات، فالله يرى أننا نقوم بمهمة إنسانية».