عم سليمان بياع «الروبابيكيا» يجمع فروات الذبائح

سوقها ينتعش في العيد حيث تنحر الأضاحي

يفرد عم سليمان الفرو في التروسكل، وينادي بكلمة مبهمة غير واضحة، لكن صباح العيد وحده القادر على تفسير كلمته («الشرق الأوسط»)
TT

صبر عم سليمان ينفد سريعا، وحين وقف أمام الصبية الصغيرة يفتش في فرو الخروف بعين خبيرة قرر له خمس جنيهات. لم يأخذ وقتا للتفكير حين أعلنت والدتها أن ما طرحه غير كاف. سحب عم سليمان ورقته النقدية الجديدة، وضعها في جيبه ومضى. اعتلى دراجته «التروسكل» ولم ينظر إلى الخلف. «هي حسنتها كلها أيه يعني.. جنيه ولا اتنين مش مستاهله وجع قلب».

يدرك عم سليمان وغيره من أقرانه أن عملهم «مشترو الفرو» لا يرقى إلى مستوى المهنة أو الحرفة، لكنه مجازا يرتاح لهذا الوصف «مهنة عابرة»، لا ينتصب سوقها إلا في يوم واحد من السنة، وتحديدا صبيحة عيد الأضحى، حيث تنحر الأضاحي. الطريف في هذه المهنة المجازية، أنها سوق مفتوحة، تشمل كل الشوارع والميادين والحارات والأزقة، في هذه الليلة المباركة. كما لا يصح أيضا تسميته تاجر روبابيكيا، فكلمة تاجر أكبر كثيرا حتى من أحلامه، كما لا يصح وصفه ببائع الروبابيكيا فهو بالأصل وسيط بين بائع ومشتر، والحل العبقري وربما الوحيد الذي اقترحته القريحة المصرية لتسمية مهنته هي «بتاع روبابيكيا».

هو نفسه، عم سليمان، حين سألته «الشرق الأوسط» عن مهنته الأصلية قال: «بتاع روبابيكيا». إذن عم سليمان بتاع روبابيكيا، مأخوذ في دورتها وعائدها الهزيل، دوامة يشتري فيها الأشياء القديمة ليبيعها. ربما إطار صورة متهالك، صوان تآكلت بفعل الزمن، راديو عتيق، بدلة أكل عليها وشرب الزمن. نهايته، يشتري عم سليمان الصورة الأخيرة للتاريخ اليومي للمصريين، مختزلا في هذه الأشلاء من سقط المتاع، وغير مأسوف عليه أملا في جديد بهي، يجدد إيقاع الحياة.

لكنه في أول أيام عيد الأضحى يتولى مهمة خاصة تتمثل في (تخليص) المصريين من فرو الأضحية بشرائه، ليبيعه ليلتها كما هي عادته «لمدابغ عين الصيرة» مركز دبغ وصناعة الجلود في القاهرة.

«حسنة» عم سليمان كما يسمي رزق يومه أول أيام العيد مرهونة بمهارة الجزار، يدرك لحظة رؤيته فرو الأضحية ما إذا كان الجزار بارعا أو عديم الخبرة.. «سلخ الخروف مش حاجة سهلة»، قال وهو يعرض بتجهم، فرواً اشتراه صباح اليوم مشيرا بأصابعه المبتلة ببقع الدم لقطع هنا وقطع هناك. ثم استدار وقذف به على الرصيف وهو يتمتم «حنشيله ونعمل بيه دوشه.. والله شاريه بفلوس».

الجزار الماهر، فنان «أصابعه تتلف في حرير»، يعطي عم سليمان «حته نضيفة» كما يسمي فرو الخروف، بدون أن تطالها سكينه فلا يجرح الجلد.. ومقابل «حته نضيفة» يدفع عم سليمان سبعة جنيهات ونصف الجنيه، يبيعها في المقابل بعشرة جنيهات. لكن أمام فرو طاله قطع أو اثنان، يفضل عم سليمان أن يتعامل مباشرة مع الجزار، وتنتهي المساومة بينهما بصفقة مريحة، حيث يشتري عددا من القطع المعيبة بثمن قطعة واحدة.

يفرد عم سليمان الفرو في التروسكل، وينادي بكلمة مبهمة غير واضحة، لكن صباح العيد وحده القادر على تفسير كلمته.. وسنوات عمره التي قضاها يجوب تلك الشوارع. فعم سليمان يعمل في هذه المهنة منذ سبعة وعشرين عاما، بمنطقة المهندسين بالجيزة المتاخمة للعاصمة القاهرة، مرت عليه صباحات أعياد عديدة يجوب فيها الأحياء حتى نسي بهجتها الخاصة، تعوّد أن يشاهدها فقط في عين من يجيبه مناديا «أيوه تعالى». حينها يدرك أنه المقصود وأن «حتة فرو» جديدة في انتظاره.. وربنا يكرم.. بدل ما نقعد في البيت.. أهي «نواية تسند الزير».

لا يعدم عم سليمان المنافسين له، وهم ليسوا من أبناء مهنته، باعة خضروات أو فاكهة، يدورون بعرباتهم الكارو بحثا عن الجنيهات القليلة. أو حتى شباب «صيَّع»، ممن يتسكعون في المقاهي وعلى نواصي الشوارع والحارات. «أيام عيد كل عام وأنتم بخير.. أناس بتبقى قضت حاجتها.. حنقعد من غير شغل».

يقطع عم سليمان الطريق من المهندسين عبر كوبري قصر النيل باتجاه المدابغ في عين الصيرة ليبدأ دورة أخرى من الفصال، هذه المرة بإصرار أكبر وحمية فقد دفع ما دفع من جيبه الخاص طوال نهاره، «طعم بتحايل به على لقمة عيشي»، لكن وقت الجد عند مدخل المدابغ يحدد بهجته، وشكل فرحته بالعيد كبقية الناس. لكن سنوات عمره التي لم تمنح الراحة منحته الرضا والصبر. صبر العارف هذه بكذا وهذه بكيت، يجري حسبته كلما اقترب من سور مجرى العيون الذي يحيط بالمدابغ.

لو أكرمه الله بجلد بقري، يستبشر خيرا فالمكسب أكبر، يبيعه بحوالي مائة وخمسين جنيها، صفقة محترمة، ساعتها يروق باله ويختار من بين فرو الخراف حته حلوة لبيته. تتولى زوجته أمرها. تغسلها جيدا بالماء حتى تتخلص من الدم وما علق بها من أوساخ، وتتركها تجف، تنشرها على سور شرفة البيت ليومين أو ثلاثة، ثم تفرشها على الأرض وتثبت أطرافها جيدا، قبل أن تدهنها بخليط من الملح والشبة المذاب في الماء، وتظل في الشمس حتى تجف تماما، قبل أن تفركها بالحجر.

«ربك كريم يرزقنا بحته بقري». وحتى ذلك الحين سيظل عم سليمان على تروسكله العجوز يدور في شوارع القاهرة نهار العيد بحثا عن شخص لا يرغب في فرو أضحيته لكي «يسترزق» بجنيهات قليلة قد تحمل الفرحة في آخر يومه لعائلته، حتى لو كانت متأخرة قليلا.