التشبث في العيش بغابات حوض الأمازون.. رغم الفوضى

أبناء قبيلتي «ييكوانا» و«سانيما» يتمسكون بأسلوب حياتهم التقليدي الذي يتعرض لحصار متزايد

رغم وضع خطط لمشروعات إقامة سدود على أنهار المنطقة، فإنها تم التخلي عنها لاحقا (نيويورك تايمز)
TT

بدأت رحلة صيد حيوان التابير، أحد الحيوانات الثديية الضخمة التي تجول غابات كورا البعيدة في جنوب فنزويلا، عند الفجر. مع سطوع الشمس، تسللت أشعتها عبر أشجار الغابة الكثيفة، والتي تعد آخر بيئة حوض نهر تحتفظ بطابعها الأصلي على مستوى أميركا الجنوبية برمتها. وحملت الأغصان مصدر تهديد يتمثل في نمل يصل طوله إلى بوصة ويشبه في شكله الرصاصة يعرف باسم «فينتيكواترو»، نظرا لأن الألم الشديد الذي تسببه لسعتها يستمر 24 ساعة. وعلى الأرض، رقدت جثة متحللة للأفعى المسماة «سيدة الأدغال». وحملت الغابة أصداء عويل القرود، التي اختفت أصواتها لدرجة كبيرة وراء أصوات هي في ظني حشرات طائرة تنقل مرضا خطيرا يتسبب في تضخم الطحال. أثناء الرحلة، أشار روميرو غونزاليز (18 عاما)، أحد ابنا قبيلة «ييكوانا»، ممسكا في إحدى يديه منجل وفي الأخرى سلاح ناري، إلى جثة لسمكة أنقليس يبلغ طولها ستة أقدام عثر عليها أقرانه من فريق الصيادين في وقت سابق. وسارع أعضاء الرحلة إلى قطع أجزاء من رأس أنقليس، والتهامها تيمنا بها. ثم قابلوا طائر قراز أسود اللون، أشبه بديك رومي بري، وسارعوا لإطلاق النار عليه. وبرر غونزاليز ذلك بقوله: «قراز الطائر المفضل لدي»، مشيرا إلى اللحم المشوي الذي تناوله على العشاء الليلة السابقة. لا تتخلل غابات كورا طرق أو سدود لتوليد الطاقة الكهربية من اندفاع المياه، وتعد منطقة منسية من قبل باقي أرجاء العالم. وتغطي الغابات النائية قطاعا من جنوب فنزويلا يتجاوز في مساحته حجم بلجيكا. ويعيش داخل هذه الغابات الاستوائية وتهطل فيها المطار بكثرة وتضم حشائش سافانا أيضا قرابة 3.500 فرد فقط من السكان الأصليين ممن ينتمون إلى قبيلتي «ييكوانا» و«سانيما». وتتدفق باتجاه الغابات مجموعة أنهار قادمة من جبال فنزويلية ذات قمم مسطحة يعتقد علماء الجيولوجيا أنها بقايا جبال قارة غندوانا البدائية. الملاحظ أن أبناء قبيلتي «ييكوانا» و«سانيما» يتمسكون بأسلوب حياتهم التقليدي هنا، والقائم على اصطياد حيوانات البقري والقرد العنكبوت وتابير. ويزرعون نبات المنيهوت، ويستخدمون نبات «بارباسكو» لاستخراج سم يستغلونه في اصطياد الأسماك من القنوات. إلا أن تقاليدهم تتعرض لحصار متزايد، ويرى علماء الأنثروبولوجيا أنه من العجيب تمكنهم من الحفاظ على ثقافاتهم من دون مساس حتى الآن. من بين أكبر التحديات التي يواجهها سكان الغابة الاتجار غير القانوني في الحيوانات البرية واعتداءات من ينقبون عن الذهب ورفض الحكومة مطالب سكان غابة كورا بالتمتع بسيطرة إدارية أكبر على أراضيهم. المعروف أن القبيلتين تمكنتا من النجاة من محن عصيبة لا حصر لها. على سبيل المثال، شن تجار الرقيق من الكريبيين المنتمين إلى المنطقة المعروفة حاليا باسم ساحل غويانا غارات في القرن الـ17 على كورا، وقاموا بتسليم الأسرى إلى الهولنديين. في ثلاثينات القرن الماضي، خاضت «ييكوانا» و«سانيما» حربا وحشية ضد بعضهما البعض، جراء غارات شنتها «سانيما» للاستيلاء على معادن ونساء، مما دفع بالقبيلة حاليا إلى مرتبة ثانوية داخل بعض القرى التي يهيمن عليها أبناء «ييكوانا». بصورة ما، نجحت الغابات التي تعيش فيها القبيلتان من النجاة من الهلاك، الأمر الذي يوعز به مؤرخون إلى الموقع النائي لكورا، واعتماد فنزويلا الشديد على مورد طبيعي آخر هو النفط. ورغم وضع خطط لمشروعات إقامة سدود على أنهار المنطقة، فإنها تم التخلي عنها لاحقا. كما تقف محطات البحث العلمي في الغابة دونما اهتمام من أحد. ورغم توافد الكثير من المبشرين الأجانب وعلماء الأنثروبولوجيا فيما مضى بغزارة على المنطقة، بات من النادر رؤيتهم الآن. فمن جانبه، طرد الرئيس هوغو شافيز مبشرين أميركيين خلال هذا العقد، متهما إياهم بالتجسس. ولأسباب غير واضحة تماما، نادرا ما تمنح حكومته تصريحات لخبراء من الخارج بإجراء أبحادث في كورا. وترتب على ذلك اختفاء جهود التبشير من المنطقة بصورة تكاد تكون كاملة. ويعمل أحد المشروعات التي تشرف عليها «كورا ويشوغو»، وهي مجموعة غير حكومية مقرها قرية إدوينا، على تسجيل أصوات شدو مئات الطيور في الغابة من أجل تعريف الأطفال هنا بشأن الحياة البرية الثرية في كورا، وهي معرفة تنحسر تدريجيا مع تعرض أبناء «ييكوانا» و«سانيما» على نحو متزايد للحياة المضطربة المحيطة بهم داخل فنزويلا. من جهته، أوضح أحد أبناء قبيلة «سانيما»، أشار إلى نفسه باسم ووكيا، أن «صوت طائر «توكولوماواي» يرشد المتخفين تحت ظلال الأشجار إلى أماكن تجول حيوانات البقري». وأشار إلى اعتقاده أنه في الخمسين من عمره. ويأتي برنامج حفظ غناء الطيور، المدعوم من «مارتش فونديشن»، وهي منظمة معنية بالبيئة مقرها كاليفورنيا، متناقضا مع الضغوط التي تتعرض لها قبيلتا «ييكوانا» و«سانيما» في وقت بدأت أنظار العالم الخارجي تتحول باتجاه غاباتهما وأنهارهما. ويمكن الاطلاع على واحدة من النتائج المحتملة لهذا الوضع بالنسبة للقبيلتين لدى زيارة ماريبا، وهي مدينة تضم نحو 4.000 شخص، وتقع على مسافة ست ساعات بالقارب من إدوينا. تضم المدينة وجودا عسكريا قويا ـ يرمي لمحاربة التنقيب غير القانوني عن الذهب في كورا الذي يتسبب في تلويث الأنهار بالزئبق، ويتسبب في بعض الأحيان في إقدام القائمين بأعمال التنقيب بإحراق أكواخ أبناء «ييكوانا» و«سانيما» ـ يعد مصدرا للتوتر. الشهر الماضي، على سبيل المثال، استجاب سكان المنطقة لحادث إطلاق نار من جانب الجنود أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص من خلال إضرام النيران في نقطة التفتيش الرئيسة في المدينة. بيد أنه في الوقت ذاته، تجلب الحكومة معها موارد يستحيل رفضها، ففي صباح أحد أيام السبت القريبة، مثلا، قاد ضباط في قوة مدنية مسلحة يدعمها شافيز، تعرف باسم «الميليشيا البوليفارية»، نحو 30 مجندا، جميعهم تقريبا من أبناء «ييكوانا» و«سانيما»، في تلاوة تراتيل محلية. وقال الضباط إن المجندين حال انتظامهم سيحصلون على نحو 6 دولارات. وأخذت المجموعة تشدو قائلة «يجب أن يحمل كل أبناء فنزويلا السلاح، فسلام المرء الحقيقي يكمن في تقدم أمته». يذكر أن التقدم في ماريبا، يتجلى في أحد الأزقة التي تضم بعض أبناء «ييكوانا» الذين رحلوا عن تشاغورانا، وهي قرية تقع في أعماق الغابة. من جهته، قال سيلفيريو فلوريس (49 عاما)، الذي انتقل إلى حي قذر في ماريبا منذ ثلاث سنوات: «إننا بحاجة للمال لشراء سلع. إذا ما انضممنا إلى إرسالية»، في إشارة إلى برامج الرفاه الاجتماعي التي ينفذها شافيز «ربما سنتقاضى أجرا شهريا». داخل موقف للشاحنات، وقف تاجر في لحوم الحيوانات البرية على نحو غير مشروع يعدد المنتجات التي بحوزته: تابير وقراز وبقري. وأشار إلى أن الأسعار تبلغ قرابة 4 دولارات للكيلوغرام بالنسبة للحيوانات البرية التي قتلت بالقرب من مناطق وجودها الأصلية من قبل صيادين غير قانونيين. في الوقت الذي يعتدي فيه وافدون جدد على أراضيهم، يمضي سكان «ييكوانا» و«سانيما» في حياتهم، حيث يزرعون ويصيدون الأسماك ويصطادون الحيوانات. لكن نتائج هذا الوضع ليست واعدة دوما. على سبيل المثال، عجز روميرو غونزاليز عن صيد تابير. وفي اليوم التالي، مر وأقرانه عبر جثة متحللة لتابير تركها صيادون معتدون تتعفن. من جانبه، علق موكوي رودريغيز (23 عاما) من أبناء «ييكوانا»، بقوله «لك أن تطلق على هذا واقعنا. أو بالأحرى أطلق عليه نهاية واقعنا إذا لم يتوقف».

* خدمة «نيويورك تايمز»