«الشرق الأوسط» تعيد اكتشاف النادي السويسري في أزقة حي إمبابة الشعبي بالقاهرة

أحبه الملك فاروق.. ومؤسسه أوصى به لـ«الإخوان»

لم يقتصر النادي على السويسريين فقط بل اعتاد بعض المصريين الذين علموا بأمره مصادفة على ارتياده («الشرق الأوسط»)
TT

برغم زحام القاهرة وكثرة نواديها الاجتماعية، وبخاصة نوادي الجاليات الأجنبية التي تتمتع بتاريخ عريق في العاصمة المصرية، فإن قلة نادرة من المصريين، تعرف أن للسويسريين ناديا اجتماعيا باسمهم في عاصمة المعز. هذا النادي، الذي تعيد «الشرق الأوسط» اكتشافه للقارئ، يبدو أشبه بفردوس منسي في حواري وأزقة حي إمبابة الشعبي. حتى إن العم سعيد الذي يتخذ من سوره متكأ كل صباح لا يعلم ما يدور بداخله. وربما لم يشعر بفضول، أو خشي السؤال، بفضل الاسم الذي يمنحه رونقا مميزا «النادي السويسري».

المدهش في أمر هذا النادي أن مؤسسه، وهو رجل الأعمال السويسري هنري ماير شيده في ثلاثينات القرن الماضي كقصر منيف للراحة والاستجمام، في منطقة نائية (آنذاك) بعيدا عن صخب المدينة. ولم يدرك صاحب القصر، أو يتصوّر، أن تطور الحياة والجغرافيا سيحيط قصره المنيف بالعشرات من بيوت البسطاء الشعبية ليتحلقوا حوله، متحدّين لهجته الجمالية الآمرة والآسرة. وبحكم الجغرافيا نفسها، وعوامل مجتمعية كثيرة أصبح الشارع الموصل إلى النادي العريق مجرد «سويقة» لمحال قطع غيار وورش إصلاح السيارات.

لكن وتيرة الدهشة تعلو حين تتصفّح قصة هذا القصر، وكيف تحوّل إلى ناد اجتماعي. فأمام وصية مكتوبة باللغة الفرنسية، تعمّد صاحبها أن تكون بالغة التعقيد تكاد تكون عصيّة على الترجمة، واحتاج الأمر لتدخل السفارة في القاهرة، أمكن استنتاج معنى إحدى فقرات الوصية. والقصد المرجّح هو إمكانية استغلال السويسريين المقيمين في القاهرة للمكان.. شرط أن يحافظوا على طابعه وألا يستخدموه في أغراض تهدف للربح. وكانت هذه الفقرة هي كل ما يحتاجونه لكي يتحوّل هذا القصر الجميل إلى ناد يجمع الجالية السويسرية في مصر.

مع هذا لم يقتصر النادي على السويسريين فقط، بل اعتاد بعض المصريين الذين علموا بأمره مصادفة على ارتياده. ومن هؤلاء ميساء فاضل التي تعرّفت على النادي عبر صديق مصري يعمل في القاهرة مع إحدى المنظمات الدولية. وبالنسبة لميساء، وهي سيدة مصرية من بيئة محافظة، يوفر النادي قدرا من الحرية لا توجد في غيره من الأماكن دون أن يشكل ارتياده عبئا على ميزانية الأسرة. وهي تقول «النادي السويسري، بالنسبة لي واحد من أجمل الاكتشافات، فهو رخيص وهادئ، ولا ينشغل أعضاؤه بما يفعله الغير، فكل واحد في حاله.. يستمتع بالطريقة التي تناسبه».

أما علي شعبان، وهو إعلامي، يهوى الأدب وكتابة الشعر، فيوضح أنه اكتشف النادي منذ بضع سنوات، فصار عنده بمثابة الاستراحة الظليلة من أعباء المهنة وصخب الحياة في القاهرة، ويضيف «أشعر بالدفء والحميمية حين آتي إلى هذا المكان.. والجميل أن كل مفرداته تحترمك وتحرص على خصوصيتك، وتقدم لك الخدمة بابتسامة صافية محبة. حتى إنني أمضي معظم عطلاتي الأسبوعية هنا، إما بمفردي أو برفقة أسرتي الصغيرة التي أصبحت تعشق المكان، وتسعد بفكرة الذهاب إليه». ماير، صاحب «الوصية اللغز»، اختار مكانا نائيا لقصره ـ كما سبقت الإشارة ـ لكنه قريب من النيل. وزوّده بكل ما يلزم من أجل استضافة أصدقائه المقربين، ومن بينهم ـ وربما أولهم ـ الملك فاروق شخصيا الذي اعتاد الذهاب إلى الكيت كات حيث قصر صديقه ماير السويسري.. أو قاصدا كازينو الكيت كات الشهير. أما اليوم، حين تزور ميدان الكيت كات، وقد تغيّرت ملامحه عن ذاك الزمن الجميل (ثلاثينات القرن الماضي) فلن يكون بإمكانك تخيّل وجود بقعة خضراء جميلة قربه، على الرغم من إطلالة الميدان على النيل. وحين تدخل إلى الشارع الذي من المفترض أن يقودك إلى حيث النادي ستزداد دهشتك، وقد تشعر أنك ضللت الطريق. وحين تنعطف في ما يشبه الزقاق الضيق حيث شارع «الجهاد» ستكون على يقين بأنك ضعت حتما. ولكن قبل أن تتمكن من إعادة التفكير في وسيلة للعودة من حيث بدأت، ستتبدّد الهواجس وتكتشف أنك بتّ قاب قوسين أو أدنى من جزيرة خضراء ضائعة وسط عشوائيات منطقة إمبابة الشعبية التابعة لمحافظة الجيزة. الواقع أن ماير لم يكن متعاطفا كثيرا مع السويسريين، وبالأخصّ الناطقين بالألمانية منهم، ومثّل هؤلاء حينئذٍ غالبية السويسريين المقيمين في مصر. إلا أنه بعدما اعتلت صحته على نحو خطير، قرّر العودة بصفة نهائية إلى أوروبا، بعد سنوات من الترحال، مفضلا الموت في وطنه. وهناك اقترح عليه ابنه أن يمنح قصره للجالية في القاهرة لأن أحدا من عائلته ليس بحاجة إليه. وتحت إلحاح الابن وافق ماير، وهكذا آلت ملكية المكان المشروطة إلى الجالية.. ومن هنا جاء اسمه «النادي السويسري».

يفتح النادي أبوابه في تمام الثامنة والنصف صباحا، سواء لأعضائه أو لغير الأعضاء مقابل تذكرة دخول (10 جنيهات للبالغين – 5 جنيهات للأطفال). وبإمكان السيدات أن يصطحبن أطفالهن إذ يحتوي النادي على رياض أطفال، كما يقدم مجموعة متنوعة من النشاطات لاستيعاب طاقات الأطفال، كالتدرب على بعض الرياضات أو أخذ دروس الموسيقى والباليه، بجانب وجود قاعة لعروض سينما الطفل، وإمكانية انخراط الأطفال بنشاطات التخييم.

كذلك، يقيم النادي من حين إلى آخر المعارض الخيرية التي يُخصّص ريعها للجمعيات الخيرية. ويستضيف النادي كذلك الاحتفالات الخاصة والمناسبات الاجتماعية لروّاده، حيث تبلغ قيمة العضوية سبعمائة جنيه مصري سنويا (نحو 150 دولارا أميركيا).

هذا، وبعد سنوات من الإهمال الذي طال النادي حتى منتصف الثمانينات، عاد جمع من الرواد السويسريين إلى ناديهم مجدّدا، وكان بين هؤلاء هاينز، وهو رجل سويسري يعمل «سباكا»، وقد أخذ على عاتقه تجديد المكان، وفي كل زيارة له مع أصدقائه حرصوا على إعادة الروح إلى هذا القصر العتيق، حتى عاد حضنا دافئا للجالية. أما أطرف ما يذكر عن «شروط» ماير لتقييد استخدام القصر من قبل السويسريين الألمان، أنه أوصى في حال ارتكاب أي مخالفة لتعليماته من شأنها تعطيل حق انتفاع الجالية بالقصر، أن تؤول ملكيته إلى جماعة الإخوان المسلمين. ولم يدر في ذهنه حينذاك، طبعا، أن مديرة النادي ستكون ألمانية.. وأن الجماعة ستغدو محظورة.