كارمن تلهب عواطف ميلانو

إنتاج جديد لأشهر أوبرا عالمية ينتهي بالهتاف للمغنين والتصفير للاحتجاج على المخرجة

مشهد من أوبرا كارمن أثتاء عرضها في دار أوبرا لاسكالا بميلانو (رويترز)
TT

تثير أوبرا «كارمن» للموسيقار الفرنسي جورج بيزيه العواطف والجدال منذ عام 1875، وبها افتتح الأسبوع الماضي الموسم الجديد لدار أوبرا لاسكالا بميلانو الذي يعتبر حدثا عالميا لأنه إنتاج جديد يعرض لأول مرة، وتقوم بدور الغانية الغجرية اللعوب كارمن مغنية ناشئة من جورجيا عمرها 25 عاما لم يسمع بها أحد من قبل واسمها أنيتا راشفيلشفيلي، يساندها مغن ألماني شاب مقتدر بلغ النجومية مؤخرا وهو يوناس كوفمان في دور دون جوزيه الذي يخلع بزته العسكرية ويتحول إلى مهرب في جبال الأندلس من أجل عيون كارمن وجاذبيتها، ثم ينتهي به الأمر بقتلها أمام حلبة مصارعة الثيران في إشبيلية لشدة غيرته بعد أن دمر نفسه. البطل الحقيقي وراء الستار كان المايسترو دانييل بارنبوم الذي قاد الأوركسترا بنجاح مذهل مكن النجوم الثلاثة من حصاد تصفيق الجمهور لربع ساعة متواصل بعد انتهاء العرض، لكن المخرجة المسرحية إيما دانتي القادمة المحدثة لإخراج الأوبرا لأول مرة بأسلوب مبتكر وقوي وربما فائق الشحن والانفعال، نالت الإعجاب والتصفيق أيضا لكنه امتزج بالتصفير والاحتجاج من قبل مجموعة من المتفرجين لم يعجبهم تجريد كارمن من ملامحها وجوها الإسباني المألوف.

أهم دار للأوبرا في إيطاليا وهي «لا سكالا ميلانو» هي من أشهر خمس دور عريقة لتقديم المسرحيات الغنائية في العالم، وتبدأ موسمها الشتوي كل عام في 7 ديسمبر (كانون الأول) منذ ما يربو على خمسين عاما واختار مديرها الفرنسي الجديد ستيفان ليسنر أوبرا كارمن المعروفة للمرة 182 في تاريخ ميلانو. حبكة المسرحية الغنائية مقتبسة من قصة قصيرة للكاتب الفرنسي بروسبر ماريميه، وقد توفي ملحنها بيزيه في أوج شبابه وعمره 37 سنة بعد أشهر من عرضها في باريس وفشلها الذريع، الذي سبب له نوبة قلبية بعدما قرأ آراء النقاد الموسيقيين آنذاك، واعتبارهم الموضوع غير أخلاقي لأنه يجسد فكرة الإغراء الذي يقود إلى الهوى والهيام ثم تدمير النفس بسبب غيرة دون جوزيه وتقلب كارمن ونزواتها وعدم إخلاصها. نسجت عبر الأيام أسطورة كارمن المثيرة للشهوة رغم أنها ليست من الجميلات بل لها تأثير مغناطيسي جذاب وتفكير حر منطلق من القيود لا يتقيد بالوعود.

تمكنت المخرجة إيما دانتي من الجيل الجديد للمخرجين المسرحيين في جزيرة صقلية من إعطاء الإنتاج الحالي نفحة من روح الجنوب وألوانه وولعه بالعاطفة، وكما قال قائد الأوركسترا بارنبوم «خلقت مشاهد الأوبرا بشكل واضح يسمح للمتفرج بمتابعة الموضوع بشغف ورسمت الجو المناسب للأحداث». أسلوب دانتي الدرامي في مسرحيات الرعب التي نجحت فيها سابقا مثل مسرحية «دزينة من رجال عصابات المافيا تقودهم امرأة»، ركز انتباه المتفرج ثلاث ساعات كاملة لأنها استخدمت طريقتها في الجو المظلم الخافت الإضاءة والثياب التي صممتها بنفسها لتوحي للمتفرج بما سيحدث بعد تشويقه وخلق القلق في نفسه، فمشهد الرقص الغجري وتأجج نار الحب احتوى على ملابس من الألوان الزاهية لكارمن والجوقة الموسيقية وراقصات الباليه كالأحمر الأورغواني والبرتقالي والبنفسجي، وفي مشهد مقتل كارمن رأيناها تلبس ثوبا أسود وكأنها تنتظر نهايتها القاتمة.

قامت أنيتا راشفيلشفيلي بإبداع ملحوظ في دور كارمن سيجعلها من نجوم المستقبل الناجحين، فصوتها المثير وملامحها الشهوانية وصوتها الرخيم وبراعتها في التمثيل والغناء معا جعلت لها جاذبية متوترة غريبة.. أما الأداء الممتاز واللفظ الفرنسي المتقن من دون لكنة ألمانية والصوت العذب الذي لا يبارى فكانت من نصيب يوناس كوفمان، فقد كان يغني ويحلق من دون تكلف أو جهد لأنه يمتلك موهبة طبيعية فذة. أبدعت راشفيلشفيلي في غناء أغنيتين شهيرتين من الأوبرا، أولاهما «هابانيرا» أي هافانا بكوبا حين لجأ بيزيه إلى لحن على نمط الموسيقى الكوبية المتأثرة بالإيقاع الأفريقي، وثانيتهما «أغنية مصارع الثران» (توريادور) التي أتقنها مغن من الأوروغواي وهو إروين شروت قام بدور اسكاميليو مصارع الثيران الذي خطف قلب كارمن من دون جوزيه المغرم بها منذ أن رمت له وردة حمراء أغرقته في حبها. من المشاهد الجريئة التي لا تنسى المشهد الأول في إحدى ساحات إشبيلية، إذ نراها تشبه أحياء باليرمو عاصمة صقلية من دون لمسات إسبانية تقليدية، ما عدا ثلاثة رجال يستعملون المراوح الإسبانية المشهورة لترطيب الجو الحار، وبضعة عمال ينفضون الغبار عن السجاد، أما مشاهد المشاجرات خاصة النسائية وشد الشعور بين عاملات مصنع التبغ والسيكار حيث كانت تعمل كارمن فكانت حقيقية ومفعمة بالمشاعر والحركة، ومشهد كارمن وهي تجلس فوق دون جوزيه كدليل على سيطرتها عليه ثم تغني له «الحب غجري لا يتبع أي قانون».

حضر العرض رئيس الجمهورية جورجيو نابوليتانو، وعمدة ميلانو ليتيسيا موراتي، ومن الوزراء فيتوريا بارامبيلا وزيرة السياحة، وعدد كبير من الشخصيات العالمية والمشاهير والفنانين، ومنهم الكاتب دان براون، بينما قامت مظاهرات خارج المسرح تدعو الحكومة إلى عدم خفض دعمها للنشاطات الثقافية. كانت ليلة حافلة بالمشاعر والعواطف واكتشفنا بعدا حديثا للنظر إلى شخصية كارمن، فهي امرأة مثيرة لديها مشروعها في التعامل مع الرجال لأنها من النوع الماكر الذي يحسب كل الحسابات.