«الصامتون» يغزون خشبة المسرح بالنقر على الكفوف والأكتاف

فرقة تمثيلية استعراضية.. أعضاؤها من الصم والبكم

أعضاء فرقة «الصامتون» («الشرق الأوسط»)
TT

حين تقدم إحدى الفرق الاستعراضية عروضها على أي مسرح في العالم، فإن مقدار نجاحها يتوقف على مدى توافق حركات أعضاء الفرقة، الأمر الذي يتطلب أذنا موسيقية من الطراز الأول، لكن ماذا لو شاهد أحدنا عرضا يمتد لحوالي الساعة لفرقة استعراضية أعضاؤها من الصم الذين فقدوا حاسة السمع منذ ولادتهم، ولا يعرفون حتى ماذا تعني كلمة موسيقى.

في مدينة المحلة الكبرى، شمال العاصمة المصرية، توجد فرقة «الصامتون» التي تضم 32 فتى وفتاة تحت وفوق 18 سنة، جميعهم من الصم، باستثناء مدربهم رضا عبد العزيز. تأسست هذه الفرقة عام 2005 بتسعة أطفال فقط تحت سن الـ18.

ولا يكتفي أعضاء الفرقة بأداء الإيقاعات التي يتدربون عليها، وإنما سعوا لتطوير أنفسهم، ومنهم من هو في طريقه الآن لتصميم عرض كامل بمفرده. يقول مدربهم: «لقد تعلموا الإيقاعات، يعني حينما أشير إلى إيقاع مقسوم فهو يعرف ماذا أعني وكذلك بقية الإيقاعات مثل فالس وأيوبي وغيرهما.. يعرفون كل ذلك من خلال النقر، ومن كثرة ممارستهم أصبحت لديهم خبرات تجعلهم يطورون أنفسهم لدرجة أنه يمكنهم الآن تصميم رقصات كي يكتسبوا ثقة أكبر في أنفسهم.

وبعد عام واحد من تأسيسها وقع الاختيار عليها لتمثيل مصر رسميا في المهرجان السابع للرقص المسرحي الحديث بدار الأوبرا المصرية عام 2006 بمشاركة فرق عالمية لراقصين عاديين (غير معاقين)، من 4 دول أوروبية. وشاركت «الصامتون» في المهرجان بعرض «أجنحة صغيرة»، ووصفها النقاد بأنها «مفاجأة المهرجان»، وأنها «تطور مهم لفن الرقص المسرحي».

مدربهم رضا عبد العزيز، وهو شاب في العقد الثالث من العمر، يقول إن الإعاقة مهما كانت لا يمكن أن تمنع صاحبها من التفرد والتميز. الوظيفة مع فرقة «الصامتون» لم تكن بالنسبة له مجرد مصدر للحصول على الرزق، وإنما «مصدر إلهام»، كما يقول.

وعمل رضا كمشرف للمسرح في مدرسة الأمل للصم والبكم في المحلة الكبرى، إلا أنه من خلال عمله اكتشف أن العروض المسرحية التي يؤديها الصم والبكم ليست إلا عرضا مسرحيا عاديا تستخدم فيه لغة الإشارة كلغة للحديث على المسرح، وهو ما يجعل جمهور العرض من الصم والبكم فقط، الأمر الذي اعتبره غير كاف، لأن ذلك يزيد من عزلة المعاقين ولا يعمل على دمجهم في المجتمع.. من هذه النقطة بدأ رضا في دمج الصم والبكم من خلال عروض فنية استعراضية راقصة تتوفر فيها كل عناصر الإبهار من ملابس وموسيقى وأداء وإضاءة وديكور، يتم التوجه بها للجمهور العادي ويفهمها الصم في نفس الوقت.

ولما كانت كل العروض في العمل الاستعراضي تعتمد على الموسيقى، فإن المشكلة الأولى التي واجهته كانت تكمن في جعل الصم والبكم ينفعلون مع الموسيقى التي سيعملون عليها. يقول رضا: «حاولت المزج بين خبرتي الفنية مع إحساسي بمعاناة الصم والبكم. وإذا كان الصم يفتقدون لحاسة السمع، وهي الحاسة الوحيدة للتعرف على الموسيقى، فقد كان على رضا البحث عن وسيلة أخرى ليجعلهم يحسون بالنغمات الموسيقية بدلا من سماعها، ليتوافق أداؤهم الاستعراضي مع الموسيقى، ولتحقيق التوافق الدقيق بين الحركات والتعبير النفسي عن النغمات الموسيقية. ويضيف: «بدأت أقرأ كثيرا عن بيتهوفن، وتوصلت إلى أنه ابتكر وسيلة ليتعرف بها على المقطوعات الموسيقية التي يؤلفها رغم إصابته بالصمم، حيث كان بيتهوفن يضع رأسه على جسم البيانو الخشبي أثناء عزفه ليشعر بالذبذبات المنبعثة نتيجة عزفه على البيانو.. هذا الأسلوب اسمه الاتصال العظمي، وهو عبارة عن تحويل النغمات الموسيقية إلى ذبذبات يحسها الأصم عوضا عن سماعها».

رغم عبقرية بيتهوفن التي جعلته يعزف أروع مقطوعاته وهو أصم، فقد كانت لديه من الخبرات السابقة عن الموسيقى ما قد يعينه على ذلك، حيث قضى بيتهوفن سنوات طوالا في العزف قبل إصابته بالصمم، وكان الأمر مع فرقة «الصامتون» أكثر صعوبة لأنهم مصابون بالصمم منذ ولادتهم، وبالتالي فهم لا يعرفون الموسيقى من الأساس، ولا يستطيعون معرفة الفارق بين صوت الناي مثلا وبين صوت الكمان، وبالتالي كان على رضا تطوير أسلوب بيتهوفن ليتناسب مع طبيعة الأطفال والصبية والشباب الذين يتعامل معهم. في التدريب يلفت رضا نظر أعضاء فرقته من الصم والبكم إلى إيقاعات الحزن والفرح والسرعة والبطء.. مثلا إيقاع المقسوم هو إيقاع سريع والحركة الاستعراضية فيه يجب أن تكون سريعة، أما إيقاع الأيوبي فالحركة فيه تتسم بالبطء والارتخاء والحزن.. هذا من أهم عناصر الإبهار ونجاح التجربة، فكلما كان الأداء الحركي متوافقا مع الإيقاع الموسيقي والتعبير النفسي، كان العمل ناجحا.

قبل اعتلاء أعضاء فرقة «الصامتون» خشبة المسرح يتوجب عليهم وعلى مدربهم في البداية اجتياز عدد من المراحل قبل تقديمهم عروضهم، أولها اختيار الفكرة والموضوع وتصميم الحركات، بعدها تقام ورش عمل لكل أعضاء الفرقة، يتحاورون بالحس جميعا، وهذه المرحلة تعد من أهم المراحل في الطريق لتقديم عرض ناجح، حيث تجعل أعضاء الفرقة يشعرون بالعرض الذي سيقومون به، لينعكس ذلك على تعبيرهم النفسي. وعن هذا يقول المدرب: «في عرض أجنحة صغيرة، مثلا، كنا نتحدث عن العزلة والانتهاكات التي يتعرض لها المعاقون. عبرنا عن ذلك في الديكور بقواقع ضخمة، كل قوقعة بداخلها طفلة تعبر عن العزلة التي تعيشها في المجتمع، وكل هذا يتحول لتعبيرات نفسية.. هذا ينطبق على كل مراحل العرض، كل جزئية لها حركاتها وتعبيرها النفسي الذي عاشوه في ورش العمل».

وكان مما قدمته فرقة «الصامتون» قضيه إدمان الشباب للمخدرات من خلال عرض «نيران صديقه»، وكذلك قدمت عرضا فولكلوريا من التراث المصري يحمل اسم «دموع الفرح»، كما عالجت الفرقة قضيه الدجل والشعوذة المنتشرة في العالم العربي من خلال عرض «دقة زار».

المنسقة الإعلامية للفرقة ريم نور قالت إن هناك مشاريع عديدة يتم الإعداد لها، منها عرض «الملائكة أيضا تموت»، ويسلط الضوء على معاناة الأطفال من ضحايا الحروب في العالم العربي، وعرض «أرواح غارقة» ويسلط الضوء على قضية الهجرة غير الشرعية وعرض «بيتهوفن.. أنشودة الحب والسلام» يتناول حياة بيتهوفن وإبداعاته الموسيقية ومعاناته نتيجة إصابته بالصمم، بالإضافة إلى عرض «حدوتة قبل النوم»، الذي تنوي الفرقة المشاركة به في عدد من المهرجانات، والذي يجري التدرب عليه حاليا، ويسلط الضوء على مظاهر التلوث والفساد الإنساني على الأرض.