صناديق لحفظ الأمتعة تخلص مشردي باريس من هم ثقيل

الدولة أعلنت خطة طوارئ الصقيع لحمايتهم من الموت بردا على قارعة الطريق

المشردون صيفا يتحولون إلى ضحايا للبرد شتاء (رويترز)
TT

مع تدني الحرارة، في فرنسا خلال اليومين الماضيين، إلى ما دون الصفر ببضع درجات، عادت مشكلة المشردين الذين يبيتون في العراء إلى الواجهة، كما هي العادة في كل شتاء. وفقد ستة أشخاص حياتهم في الشارع، الأسبوع الماضي وحده، بسبب البرد، ليرتفع العدد إلى 326 ضحية خلال هذا العام. كما توفي 360 مشردا خلال العام الماضي.

وفي حين أعلنت الحكومة خطة الطوارئ لمواجهة المشكلة وتوفير الآلاف من أماكن المبيت، ليلا، للمشردين، فقد أعلنت جمعية «إيمايوس»، أبرز المؤسسات الفرنسية الخيرية المهتمة بمن لا يجدون السكن اللائق، أنها أحصت ما مجموعه 3 ملايين شخص في فرنسا يقيمون في مساكن لا تتوفر فيها الشروط الدنيا للعيش الكريم، بينهم 100 ألف مشرد يعيشون دون سقف.

وتنقسم خطة الطوارئ إلى ثلاث مراحل، الأولى خطة البرد المعتاد، أي تلك التي تبدأ مع الخريف. والثانية مرحلة البرد الشديد، أي عندما تهبط درجات الحرارة ما دون الصفر خلال النهار، والثالثة مرحلة البرد الاستثنائي أي عندما تنخفض الحرارة إلى ما دون العشر درجات تحت الصفر ليلا. وأعلنت باريس، أمس، خطة البرد الشديد، وهي تتضمن تخصيص رقم هاتفي للإبلاغ عن الحالات التي تتطلب المساعدة أو النجدة، وفتح عدد من محطات «المترو»، خلال ساعات الليل، لاستقبال من يرغب في المبيت في مكان أقل بردا وفي مأمن من المطر والثلج. كما تم تحوير عدد من صالات الرياضة وتجهيزها بالمرتبات والبطانيات للغرض نفسه. وأخذت الجمعيات الخيرية على عاتقها توفير نحو ثلاثة آلاف سرير للمبيت، مع تنظيم دوريات ليلية تجوب الشوارع لتفقد أماكن تجمع المشردين وتقديم المساعدة الطبية لهم ونقلهم إلى أماكن توزيع وجبات الطعام والشوربة الساخنة. هنا، لا بد من الإشارة إلى وجود مشردين يرفضون المساعدة والانتقال إلى مبيت مهيأ من الحكومة أو الجمعيات الخيرية. وهناك من يهرب من دوريات الطوارئ أو من الحافلات الخاصة ذات اللون الأزرق التي تدور في مواعيد معينة لنقل المشردين إلى الحمامات العمومية ومستوصفات الرعاية الصحية. ويسخر بعضهم من خطط الطوارئ التي تقدم لهم سقفا للمبيت في الليل فحسب، ثم يطردون من تلك الملاجئ حال طلوع الصباح. لذلك فإن المشكلة الكبرى لأي مشرد هي كيفية التنقل، خلال النهار، مع «عفشه» السفري الذي هو بمثابة بيته الخاص الذي يتضمن أغطية وثيابا ومعلبات وأوراقا ثبوتية وأحيانا تذكارات وصورا عائلية قديمة. وهناك من يضع هذا العفش على عربة من عربات التسوق، يغطيها بأكياس البلاستيك ويربطها بسلسلة إلى عمود من أعمدة النور. لكن هناك من يضطر للمرابطة إلى جانب حاجياته الضرورية، خشية أن يسطو عليها مشرد آخر أو أن تأخذها سيارات جمع القمامة.

ولعل صفة مشرد لا تروق لغالبية من يعانون من مشكلة افتقاد السقف والمأوى. وحلت الجهات الرسمية هذه الناحية النفسية بابتكار تعبير «إس دي إف». وهي الأحرف الأُولى لعبارة «بلا سكن ثابت». لكن عموم الفرنسيين ما زالوا يستخدمون مفردة «كلوشار» في الحديث عن المشردين. وهي لفظة قد تكون مستوحاة من صفة تطلق على الحمقى، أو من الترجمة الفرنسية لمفردة «جرس»، في إشارة إلى أجراس الكنائس التي كانت مهمة قرعها توكل إلى الشحاذين والفقراء. ومع تزايد أعداد المشردين واتسامهم، غالبا، باللطف واللاعدوانية ولجوئهم إلى وسائل طريفة في التسول، صارت التسمية جزءا من التراث السياحي للعاصمة الفرنسية.

وفي السنة الماضية، ظهر ما يشبه الحل لهذه المشكلة التي كانت من ضمن عدة مشكلات تؤرق المشردين في باريس. فقد تم تخصيص صناديق إيداع في حي «الهال»، وسط العاصمة، تشبه الخدمة الموجودة في محطات القطارات لحفظ أمتعة المسافرين، لساعات محددة. وهي، حتى الآن، الخدمة الوحيدة من نوعها في باريس وتفتح أبوابها طوال العام، نهارا وليلا. ورغم أن حاجيات المشرد المتجول يمكن اختزالها في حقيبة كتف وبعض الأكياس البلاستيكية فإنها تثقل على من يقضي نهاره متجولا بين الشوارع والأحياء، دون مأوى ثابت. ونقلت وكالة الأنباء الألمانية ردود أفعال عدد منهم على هذه البادرة، حيث عبر المشرد الفرنسي جان لوك (38 عاما) عن سعادته عندما استطاع لأول مرة في حياة التشرد أن يتخلص من هذا المتاع نهارا، من خلال وضعه في الصناديق المخصصة لأمتعة المشردين قائلا: «يا للسماء، لقد كان شعورا جميلا أن أتخلص من أكياسي، وللمرة الأولى شعرت بالارتياح البالغ».

عن فوائد تخصيص صناديق لأمتعة المشردين أو «الكلوشارية» يقول فيليب، وهو واحد منهم: «سرعان ما يوصم من يحمل أمتعة وحقيبة كتف بأنه متشرد، ولا يستطيع حامل هذه الأمتعة الدخول إلى أي مكان بأمتعته بحثا عن الدفء من برد الشتاء القارس، بل لا يستطيع ارتياد مطعم للوجبات السريعة. إنه لأمر مجهد أن يضطر أحدنا لحمل عفشه طوال الوقت». وأكد فيليب، ذو السن المتقدمة نسبيا، صعوبة العثور على عمل، بل استحالة ذلك إذا لم يجد المتشرد مكانا يضع فيه متاعه.

حمل المكان الجديد لحفظ الأمتعة اسم «كن طليق اليد». وهناك خمسون صندوقا في هذا المكان الذي يستخدمه المشردون التابعون للحي، بالدرجة الأولى. أما قبل ذلك، فكان فيليب يتعاون مع أقرانه في حراسة الأمتعة بالتناوب. ولكن طالما سرقت أشياء منها. وهو يقول: «لا يمكن لأحدنا أن ينام قرير العين إذا كان خائفا من ضياع متاعه». وتقول السيدة إليزابيث بورجوينا المسؤولة عن المكان: «نريد من خلال هذه الفكرة إعطاء الناس حرية الحركة، وبعضهم يأتي إلى هنا مرتين يوميا، فهم يسلمون الكيس أو اللحاف الذي ينامون فيه صباحا، ثم يسلمون ممتلكاتهم القيمة مساء». وهناك غرفة صغيرة مجاورة لمكان الصناديق، يستطيع المشردون فيها تغيير ملابسهم ونقل متاعهم من حقيبة لأخرى في هدوء تام.

استخدم نحو 100 مشرد هذه الخزانات منذ الإعلان عن بدء تشغيلها. وليس هناك حد زمني أقصى لاستخدام هذه الصناديق. وعن ذلك تقول بورجوينا: «لن تكون الفكرة مجدية إذا ألزمنا المشردين باستخدام الصناديق لفترة قصيرة فقط. وهناك الكثير من قصص النجاح التي تحققت وما زالت تتحقق بفضل هذه الصناديق، حيث حصل ـ على سبيل المثال ـ 30 مشردا على عمل أو عثروا على مسكن ثابت بعد أن أصبح بإمكانهم التخلص من أمتعتهم، نهارا، للتنقل بحرية أكبر والبحث عن عمل».

يستطيع القائمون على هذه الصناديق تدبير أمرها بميزانية ضئيلة للغاية. إنهم يفتحون بابها يوميا من الساعة السابعة وحتى التاسعة صباحا، ومن الساعة الثامنة وحتى العاشرة مساء. أما المكان فقد حصلوا عليه من البلدية. وهناك تبرعات لهذه الفكرة من وقت لآخر. ويقتصر العمل في هذا المكان على متطوعين من بين المشردين أنفسهم، يظلون بعض الوقت في المكان بعد أن يسلموا متاعهم الشخصي. ويستغل هؤلاء هذا الوقت في «شحن الجسم ببعض الدفء» وتناول شيء من الطعام واحتساء القهوة قبل بدء الصراع مع الحياة. وعموما، يسود في المكان جو من السعادة لا يخلو من المزاح.

وإذا كانت الفكرة بسيطة فإنها ذات فائدة عظيمة حسب السيدة بورجوينا التي تضيف: «لسنا جهة تابعة للشؤون الاجتماعية وكل ما نفعله هو تقديم خدمة محددة وبعض الدفء الإنساني.. هذا وحده يفعل الكثير».