البصريات: فن عالمي!

وظفه فنانو «البوب» في أعمالهم ليثيروا سؤال «ما هو الفن؟»

في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، تمكنت الجهات الأميركية والأوروبية المعنية بصورة الأحرف المطبوعة من ابتكار الكثير من نسق كتابة الحروف ذات الزخارف الغريبة («نيويورك تايمز»)
TT

من الممكن أن يحدد شكل الحروف المطبعية كيفية نظر القراء إلى كلمة أو عبارة. على سبيل المثال، لننظر إلى عبارة «إجازة سعيدة»، فعندما تجري كتابتها على نحو لاتيني مزخرف، تبدو الكلمات مرحة ومثيرة للبهجة، بينما تبدو الكتابة الإنجليزية القديمة ذات الرؤوس الناتئة أو النسق الألماني «فراكتر» صارمة وكئيبة. يجري تصميم صور العرض المختلفة بغرض توصيل مجموعة من الأفكار والمشاعر. ويتسم نسق الخط بتنوع بالغ شبيه بما عليه الحال مع الملابس. ومثلما الحال مع الملابس، هناك أنماط أساسية مثل اللون الأسود، وأخرى تروح وتغدو حسب الموضة، مثل طول التنورة أو الفستان. في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، تمكنت الجهات الأميركية والأوروبية المعنية بصورة الأحرف المطبوعة - وهي المصانع التي يجري فيها تصميم شكل الحروف وطرحها للاستخدام التجاري والصناعي - من ابتكار الكثير من نسق كتابة الحروف ذات الزخارف الغريبة. في ذلك الوقت، كانت الإعلانات صناعة مزدهرة، وجرى استجلاب المزيد من أنماط كتابة الحروف الغريبة من الخارج في محاولة لجذب أبصار الجمهور العام وتمييز جهة بيع عن الأخرى. ويعد كتاب «نمط: تاريخ بصري لصور كتابة الحروف والأنماط البصرية، المجلد الأول، 1628 ـ 1900» (دار نشر: تاشين، السعر: 59.99 دولار)، والذي تولى تحريره سيز دبليو. دي جونغ، مجموعة من الصفحات التي أعيد إنتاجها على نحو متقن من عدد من الكتب التي سبق طباعة الحروف بها على نحو آسر وجرى استغلالها فيما مضى في الترويج لأشكال حروف معينة في أوساط جهات الطبع التجارية. ويعود تاريخ بعض العناصر المميزة في هذه المجموعة إلى ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن الغالبية العظمى منها أنتجت خلال النصف الثاني من ذات القرن، عندما أثمر التنافس القوي بين جهات إنتاج أشكال أحرف الطباعة وفرة من الصور المصممة بدقة والمزخرفة على نحو يبعث على المرح. بين المهنيين، تبدو الكتب المتخصصة بأشكال الحروف المطبوعة المنتمية لهذه الحقبة كمجلدات جلدية ضخمة تعج بصفحات مزخرفة على نحو مذهل. علاوة على العينات المتعلقة بأشكال محددة (كان البعض يستخدم ترنيمة محددة، بينما كان البعض الآخر يكتفي بكلمات عشوائية أو عبارات غير ذات معنى)، أضافت أمثلة على الأطراف المزخرفة و«اسطمبات الطباعة» (خراطيش) وجميع صور التذييل الزخرفي لأعلى الحرف وأدناه قدرا كبيرا من البريق على الصفحة المطبوعة. وحددت بعض هذه الكتب ملامح أنماط الغرافيك في العصر الفيكتوري و«الفن الحديث» والأنماط الغرافيك الأخرى التي ظهرت نهاية القرن الـ19. وجرى استغلال الأوجه في الأغراض اليومية كافة: إعلانات زفاف وبطاقات تجارية وملصقات وحزم وأدوية. بل وفي بعض الإصدارات، جرى تخصيص صفحة أو اثنتين إلى الكتابة بـ«الأحرف السوداء» المصممة من أجل البيانات العامة المرتبطة بصحيفة ما (مثل اسمها واسم صاحبها وأجور الإعلان)، والتي بدت شبيهة للغاية بشعار «نيويورك تايمز» الحالي.

بالنسبة لغير المهتمين بالمجال، قد تبدو كتب الطباعة العتيقة تلك مفتقرة إلى الإثارة، ويفضلون بدلا منها تصفح كتالوجات، لكن بالنسبة لأي شخص مهتم بمجال التصميم، تحمل هذه الكتب قيمة كبرى تعج بكنوز هائلة (واليوم، عادة ما تحمل النسخ الأثرية أسعارا مرتفعة). ومن غير المثير للدهشة أن نجد أن بعض التصميمات الزخرفية الواردة بكتب نسق الطباعة أطلق عليها بالفعل «جواهر المطبعات». يطرح الكتاب مجموعة ثرية منتقاة من صفحات من بعض أكثر كتب الطباعة أهمية من الناحية التاريخية والكثير من صور كتابة الأحرف التي تلاشت من الذاكرة بمرور السنوات. هناك عينات وقع الاختيار عليها من «إتش. بيرتولد»، أشهر شركة مسابك ألمانية عند بداية القرن الـ20 وفيما وراءه، ومجموعة من الأوجه المشوهة بصريا من شركة «إنشيدي» للمسابك في هولندا. الملاحظ أن معظم كتب الطباعة في هذه الحقبة باعت المواد الأساسية ذاتها. ومع ذلك، فإن كل واحدة من الدول الممثلة بالكتاب - وهي ألمانيا وفرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وهولندا - تميزت بمصطلحات مميزة لها فيما يخص الطباعة. ونظرا لأن آلات سبك الحروف المطبعية كانت شديدة الثقل ومرتفعة التكلفة على نحو يزيد من صعوبة نقلها، فإن الحصول على أحدث الواردات الباريسية أو الألمانية على هذا الصعيد في نيويورك كان بمثابة حدث، وكان يجري الترويج له بقوة عبر ملصقات وكتيبات دعائية. في الوقت الحاضر، يبدي فنانون غير تجاريين ـ رسامون وصانعو التصميمات الفنية للطباعة وأتباع الفن المفاهيمي ـ ولعا بشكل كتابة الأحرف بنفس القدر الذي يبديه مصممو الغرافيك. بدأ هذا الولع في فترة مبكرة من القرن الـ20، عندما اقتطع أتباع المدارس التكعيبية والمستقبلية والدادنية أجزاء من الأنماط المعيارية لكتابة الحروف وتضمين قطع عشوائية بدلا منها في رسوماتهم ودورياتهم. وقد جرى النظر إلى الطباعة في وقت من الأوقات باعتبارها بديلا عن الرسم وأسلوبا لدمج اللغة النصية في الفن. في مقال له نشر في كتاب «آرت آند تكست» (دار نشر: «بلاك دوغ»، السعر: 45 دولارا)، كتب ويل هيل يقول: «كان استغلال المواد المطبعية والسبل التمثيلية استراتيجية شائعة في أعمال إل ليسيتزكي وفلاديمير ماياكوفسكي». ويعد هذا الكتاب بمثابة دراسة مسحية موسعة للمحاولات التي شهدها القرنان الـ20 والـ21 لاستغلال النص في الفن الحديث والمعاصر. في الواقع، أثمر تعاون إل ليسيتزكي مع ماياكوفسكي حول كتاب بعنوان «من أجل الصوت» عن القضاء بدرجة كبيرة على حدود فنية مميزة وفاصلة. وقد تضمن صورا «مصنوعة برمتها من عناصر طباعة»، الأمر الذي يتعامل معه المؤرخون حاليا باعتباره جسرا بين الفن والتصميم. اليوم، يجمع الفنانون اللغة اللفظية مع الفن التشكيلي أكبر عن أي وقت مضى. في هذا الصدد، أعرب ديف بيتش، في مقال متضمن هنا، عن اعتقاده بأن «فن النص المعاصر يجد نفسه اليوم عند نقطة التقاطع بين الفلسفة المعاصرة والفكر المعاصر المرتبط بالفن والنظريات الحديثة حول اللغة». الملاحظ أن فناني «البوب» في مطلع الستينات ـ الذين بدأ الكثيرون منهم، مثل آندي فارول، العمل كفنانين تجاريين ـ استغلوا شعارات إعلانية وعلامات مميزة لمنتجات بهدف تحدي حقائق التاريخ الفني وإثارة التساؤل الخالد: «ما هو الفن؟» عبر الكلمات والصور، يطرح هذا الكتاب بصورة أساسية تساؤلات حول دور النص والطباعة في الفن. وتتمثل الإجابة، التي جاءت عبر العديد من الأمثلة المتنوعة، في أن امتزاج الكلمة والصورة أمر طبيعي في العملية الفنية. يذكر أن توم فيليبس، رائد الفن النصي، الذي يتجسد في عمله الشهير «إيه همومنت» (A Humument)، والتي تشكل إعادة تصوير لرواية «وثيقة بشرية» (A Human Document) الصادرة عام 1892، من تأليف دبليو. إتش. مالوك. في عمله، استخدم ملصقات ورسومات وصورا مطبوعة على نحو بارز في إطار إعادة صياغته الكاملة للرواية عبر إعادة ترتيب كلمات المؤلف الأصلي. من بين الفنانين الآخرين البارعين في هذا المجال لورانس وينر، الذي تقف أعماله الجدارية الطباعية في «متحف الفن المعاصر» في لوس أنجليس وتحمل قصصا شخصية وأقوالا مأثورة مكتوبة على مساحة واسعة. من وجهة نظر وينر، مثلما الحال مع جيني هولزر وباربرا كروغر، تشكل الطباعة عنصرا رئيسا لترك صدى سياسي واجتماعي للفن. ويعمد فنانون آخرون، مثل بوب وروبرتا سميث، إلى الاقتباس من علامات خشبية مكتوبة بخط اليد.

*خدمة «نيويورك تايمز»