«آخر صورة: هيي وقاطعة».. فيلم يروي سيرة عميدة أهالي المفقودين اللبنانيين

وداد حلواني تستعيد ذكرى أوديت سالم التي انتظرت ولديها عشرين عاما ورحلت قبل عودتهما

أوديت سالم وخيمة المعتصمين
TT

عندما أرسلت وداد حلواني رسائل هاتفية لدعوة من يهمهم الأمر لحضور فيلمها الوثائقي «آخر صورة: هيي وقاطعة..» الذي أرادت عبره توجيه تحية إلى أوديت سالم. لم يتردد أحد لحظة في تلبية الدعوة، لا سيما الذين تابعوا رحلة العذاب التي دمغت حياة حلواني وسالم وغيرهما من أهالي 17 ألف مفقود خلال الحرب اللبنانية وبعدها. فالأولى خطف زوجها عدنان من منزله تحت ناظريها عام 1982 واختفى لتثير قضيته وتتولى رئاسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، والثانية أبيدت عائلتها عندما «سرقوا» منها ولديها ريشار وكريستين في وضح النهار عام 1985، كانت تنتظرهما وقد أعدت طعام الغداء ولم يعد لديها سوى طبق السلطة لتمزجه فور دخولهما حتى لا يذبل خضاره. عندما علمت بغيابهما لم تترك بابا إلا قرعته لتحصد المواعيد والتطمينات فقط. لذا استشرست لتكشف مصيرهما عبثا حتى أردتها سيارة مجنونة وهي تقطع الطريق قبالة الخيمة التي تعتصم فيها منذ سنوات لجنة أهالي المفقودين في حديقة جبران خليل جبران، وسط بيروت قبالة مبنى الأمم المتحدة. أوديت لم تكن تريد الرحيل عن الخيمة. ويبدو أن الخيمة لا تريد ترحيل أوديت منها. لذا استعادت حلواني في فيلمها هذا كيف صارت الخيمة بيتا أرحب من بيوت الذين تقاعسوا عن واجبهم في كشف مصير المخفيين قسرا. صارت الخيمة مع وداد وفيلمها مملكة الباحثين عن الأمل وسط حديقة عامة. وأوديت سالم هي عميدة هذه المملكة. وقد زرعت في حديقتها البطيخ و«مسكب كبير من النعناع يكفي موظفي الأمم المتحدة في المبنى المقابل جميعا». معادلة الألم هذه لم ترِد لها حلواني أن تبقى من دون توثيق، فجاء الفيلم الذي عرض في إطار نشاطات معرض الكتاب العربي في بيروت، بمثابة مستند يضاف إلى ملف قضية المخفيين قسرا وفق التوصيف الذي أصدرته الأمم المتحدة.

وهكذا أخذت حلواني جمهورها إلى 16 دقيقة ليستعيد معها لحظات تختلط فيها محطات حياة قسوتها تفوق التحمل. فرافقها إلى منزل أوديت سالم. وسمعها تخاطبها فتقول: «صباح الخير أوديت. أنتِ تركت الخيمة من دون إرادتك، فبقي قلبك وعقلك معنا. وبقيت أرى يدك تلوح لي عندما أمرّ في طريقي إلى عملي».

وداد تحدثت عن الصقيع في بيت أوديت. ومن زار البيت يعرف هذا الصقيع. ويعرف أن المرأة التي دهست وهي تلاحق أملها، كانت تحتفظ بأغراض ولديها نظيفة في غرفتيهما. عندما زرتها لأكتب عن مأساتها قبل أعوام قالت لي: «لا أريد تغيير أي شيء في المكان. لذا أغسل ثيابهما وأغطية سريريهما وأجدد لهما فرشاة الأسنان والمعجون كل فترة، كما أجدد لريشار شفرات الحلاقة. أريد كل شيء جاهزا عندما يفتحان الباب». قالت لي أيضا إنها «تحافظ على صحتها وتحمي نفسها من الأمراض لأنها تعيش من أجلهما». حلواني أعادت إلى الذاكرة كل ما كانت تقوله أوديت منذ عشرين عاما في المقابلات المسجلة التي مرت في أفلام وثائقية وحلقات تلفزيونية سابقة. خاطبت رفيقة درب العذاب فذكرتها بأنها كانت تنتظر كل لحظة رنين جرس الباب لتفتح لهما ويدخلان. قالت: «أعرف إحساسك. كأننا كنا نعرف بعضنا عندما التقينا للمرة الأولى». وليس غريبا أن يتعارف أصحاب المأساة الواحدة. لذا لم يكن «خارج النص» أن يتداخل اسم زوج وداد «عدنان» في مخاطبتها أوديت التي رفضت ارتداء الأسود حدادا على ولديها، والتي أجابت عندما سألوها عن سر قوتها وصمودها في الانتظار: «اسألوا ربنا». تقول في أحد التسجيلات: «ولدي لا يزالان موجودين في سورية. أعيش مع ثيابهما وأغراضهما. وهما سيعودان. حلمت بهما ثلاث مرات. وعلمت بعد ذلك أن خاطفيهما كانوا ينقلونهما من مكان احتجازهما إلى مكان آخر بالتزامن مع أحلامي».

حلواني اعتبرت أن «أوديت كانت تعيش مع الصور وتنام وتستيقظ وتأكل وتشرب مع الصور. فضلت الخيمة لأن بيتها أصبح بلا سقف. بيت أشباح. في الخيمة استعادت نشاطها. بدت أصغر عشر سنوات على الأقل. جهزت الخيمة بالأثاث وراحت تعد الطعام للرفاق المعتصمين. كانوا كلهم ضيوفها. بعضهم كان يمر فقط لتناول طبق شهي أخبرتهم أنها ستحضره». حلواني استنتجت خلال الفيلم أن «الخيمة أصبحت بشعة من دون عميدتها». وقالت: «قبل دفنها تم إجراء فحص الحمض النووي لأوديت. والسبب أن أهالي المفقودين يريدون المثابرة على حلمهم بمعرفة مصير أحبائهم». وأضافت: «ممنوع أن يخطفوا منا الحلم. أحيانا كنت أشعر أن الأهالي لا يفتشون عن أولادهم، إنما عن الأمل».

حلواني قالت إن «المقابلات والتسجيلات حصلت عليها وداد من أفراد، كما استخدمت صورا لمصورين ومتعاطفين مع القضية. وكان قد سبق التحضير للفيلم فترة شهر من الأبحاث والقراءات وتجميع المواد الخاصة به». فكرة الفيلم ونصّه وإعداده تعود إليها. ومع تعاقب الصور روت وداد بصوتها علاقتها بالراحلة. وتخلل الفيلم مقتطفات موسيقية من أغنيتين لفيروز، الأولى هي «عم يلعبوا الأولاد عم يلعبوا» التي ترافقت مع صور ريشار وكريستين في طفولتهما، والثانية «وحدهم بيبقوا مثل زهر البيلسان» التي رافقت حياة الانتظار في الخيمة، وذلك بالإضافة إلى موسيقى من مقطوعة لجورج ونستون، ومقطع للموسيقي إنيو موريكوني من فيلم «المهمة». وتم مونتاجه في جمعية «بيروت دي سي» بمساعدة من السينمائية إليان الراهب ورهام عاصي. وسبق للفيلم أن عرض مرتين مع ترجمة إلى الانجليزية في إطار مناسبتين لضحايا الإخفاء القسري. الأولى في مدينة لياج في بلجيكا، في إطار المهرجان الدولي «صوت النساء» الذي تزامن مع «اللقاء الدوري للشبكة الدولية لعائلات المفقودين» بين الواحد والعشرين والثامن والعشرين من نوفمبر «تشرين الثاني» الماضي. ولجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان عضو مؤسس في هذه الشبكة. ويعقد الاجتماع مرة كل عامين، وقد أُهدي الاجتماع الأخير إلى أوديت سالم. أما العرض الثاني فكان في الثاني عشر من ديسمبر (كانون الأول) الحالي خلال افتتاح «الاجتماع الثالث للفيدرالية الأورومتوسطية لعائلات ضحايا الإخفاء القسري» في مدينة اسطنبول التركية.

منسقة الشبكة الدولية البلجيكية لورانس فان باي شن، ترجمت الفيلم إلى الفرنسية، وتولت نقله إلى الإسبانية آنا وولف من الشبكة المسرحية الأرجنتينية.