الاحتفال برأس السنة فيروس يصيب اللبنانيين بـ«عدوى الفرح»

حجوزات أماكن السهر وصلت إلى أقصاها واستيراد السلمون المدخن والأجبان الفرنسية تضاعف

السهر ليلة رأس السنة يستوجب أيضا مصاريف تتجاوز المكان المقصود وتتعلق بالثياب الجديدة والإكسسوارات المرافقة لها وتسريحة الشعر (رويترز)
TT

«أين تسهر ليلة رأس السنة؟». سؤال لا بد أن يُطرح على كل لبناني هذه الأيام. والدليل لا لزوم للتنقيب عنه. يكفي الاتصال بأي مطعم أو فندق أو ملهى أو مقهى لحجز طاولة ليتبين للسائل صعوبة الأمر. والأمر لا ينحصر ببيروت، فهو يشمل الساحل اللبناني بمعظمه وكذلك المناطق الجبلية، القريبة والنائية منها. فالحجز يتم عادة قبل أسابيع من حلول الليلة الموعودة ومن لم يحجز باكرا لن يجد طاولة فارغة في أماكن السهر المعهودة. ففي ملهى «الميوزيك هول»، يقول المسؤول عن الحجز أن لا أماكن متوفرة لديه قبل العاشر من الشهر المقبل، باستثناء الاثنين في الرابع منه. ومعروف أن تكاليف السهر للشخص الواحد في الأماكن التي لا يحيي سهرتها أحد المطربين تبدأ من 50 دولارا وذلك من دون حساب العشاء. أما سهرات الطرب، فالأرخص بينها يبدأ بأكثر من 200 دولار للشخص في الأماكن التي تستضيف فنانين مغمورين. أما سهرات النجوم فحدث ولا حرج، حيث تبلغ تكاليف السهرة للفرد الواحد أكثر من ألف دولار أحيانا. ومن يراقب إقبال اللبنانيين على السهر لاستقبال العام الجديد، يستنتج أنهم يعتقدون أن شمس الأول من يناير (كانون الثاني) لا يمكن أن تشرق ما لم يطبّلوا لها ويزمروا ويسلموا الليل إلى النهار. أما من فاته قطار حجز طاولة في مطعم أو فندق أو ملهى فسهرته المنزلية لن تكون على المستوى المطلوب للتباهي، وإذا قال إنه «بيتوتي» ويفضل استقبال العام الجديد مع أفراد عائلته، فقد يعتبر الآخرون أن جوابه دبلوماسي لتجنب إحراج عدم القدرة على رصد مبلغ يكفي لحجز محترم ولائق، في أحد الفنادق أو النوادي الليلية ذائعة الصيت.

إلا أن ذلك لا ينفي رغبة عدد كبير في السهر بالمنزل، ليس لقلة المال غالبا بل تفاديا لضجيج الأماكن العامة وتجبنا لدفع الكثير من المال مقابل القليل من المتعة. لذا يتم الاتفاق بين الأهل والأصحاب لتحضير سهرة منزلية طنانة رنانة تستوجب شحذ المخيلة لإدهاش الآخرين بالمفاجآت التي يمكنه ابتكارها بحيث تفوق السهر خارجا متعة وراحة.

إذن لا بد من السهر ليلة رأس السنة، كأن الأمر عدوى تنتشر أكثر من كل الفيروسات. ولأن التوقعات تشير إلى إقبال استثنائي على السهر فقد ألغيت إجازات غالبية العناصر في قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني، وذلك للحفاظ على الأمن ليلة رأس السنة وتسيير أمور الناس. ولهذه الغاية صدرت أوامر واضحة بمنع سير الشاحنات في عدد من الطرق، ومنع التوقف على جانبي عدد آخر. كما صدر عن مديرية التوجيه في الجيش اللبناني قرار تذكيري يقضي بتجميد مفعول تراخيص حمل الأسلحة (الصفة الخاصة والحيازة والاقتناء) على الأراضي اللبنانية كافة.

والسهر ليلة رأس السنة يستوجب أيضا مصاريف تتجاوز المكان المقصود وتتعلق بالثياب الجديدة والإكسسوارات المرافقة لها وتسريحة الشعر. ويقول أحد مصففي الشعر إنه «فرض على جميع زبوناته التقيد بمواعيد محددة. أما اللواتي لم يحجزن موعدا، فعليهن دفع مائة دولار للتسريحة». ولا يخرج السهر في المنزل عن إطار المصاريف الإضافية وتكاليفه لا يستهان بها بالنسبة إلى ذوي الدخل المتوسط أو المحدود. يدل على ذلك ارتفاع نسبة استهلاك السلمون المدخن والنقولات والكاتو والأجبان الفرنسية، إضافة إلى المشروبات على اختلاف أنواعها. ويقول أحد التجار إن عادات اللبنانيين لا تتغير، فهم أصحاب مذهب «ساعة الفرح لا تفوِّتها». ويضيف «ساعة الفرح لديهم أصبحت عناوينها معروفة، لذا نحرص قبل حلول موسم الأعياد على استيراد السلع التي يكثر الإقبال عليها. فكمية السلمون المدخن التي نستوردها عادة لا تكفي هذه الأيام. فنضاعفها حتى نلبي طلبات الزبائن، سواء أصحاب أماكن السهر أو المواطنون العاديون في منازلهم. كذلك يكثر الطلب على الأجبان الفرنسية والخبز الفرنسي، فطاولة رأس السنة يجب أن لا تخلو من هذه الأطباق الفاخرة التي لا تستوجب تحضيرا فتريح سيدة المنزل وتمكنها من تقديم الأفضل لضيوفها».

ويرى البعض أن الإقبال على الشراء ليلة رأس السنة يحفز البائعين على عرض البضاعة الكاسدة التي لم تكن تجد من يشتريها في الأيام العادية. فالنقولات التي يحرص الزبائن عادة على اختيار أنواعها الطازجة، تتدنى جودتها في زحمة المناسبة، وتحديدا عندما يصار إلى شرائها في اللحظات الأخيرة.

عدوى السهر لم توفر الوافدين إلى لبنان للعمل، حتى إذا كانوا أبناء ثقافات لا علاقة لها بالتقويم الغربي، كما هي حال العاملات في المنازل من الجنسية الإثيوبية. فرأس السنة لديهن لا علاقة لها برأس السنة العالمي. لكن المشاركة في الفرح رغم الظروف الصعبة لها الأولوية. تقول بيزا، وهي إحدى العاملات، «إنها تتشارك مع زميلاتها، فتدفع كل واحدة منهن خمسين دولارا ويشترين مستلزمات السهرة التي يمضينها في منزل عميدة مجموعتهن». وتضيف «نحرص على إنجاز العمل باكرا ونذهب إلى المزين ونرتدي أجمل الثياب ثم نبدأ الاحتفال فنمضي السهرة في الرقص والغناء. ولا نعمل في اليوم التالي». أحلى ما في السهرة، كما توضح بيزا، «هو الطعام الإثيوبي الذي لا نجد الوقت لتحضيره عادة. فيتم إعداد الخبز الخاص الشهي، إضافة إلى الأطعمة المتميزة بتوابلها وتحديدا الفلفل الأحمر المطحون».

ولا يخرج عن قاعدة الاحتفال إلا عدد محدود من الذين يعيشون أجواءه التحضيرية في لبنان. وهذا الأمر يعكس تناقضا حادا بين الإمكانات المتوفرة لشرائح واسعة من المجتمع. وفيما قدّر أحد الخبراء قيمة إنفاق اللبنانيين على سهرة رأس السنة قبل عامين بنحو 50 مليون دولار، 50 في المائة منها أنفقه الأغنياء، فيما الفقراء وأصحاب المداخيل المتوسطة أنفقوا النصف الآخر، يمكن الاستنتاج أن بعض اللبنانيين حاضرون لدفع أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور في سبيل هذه المناسبة. وهكذا ينسف اللبنانيون كل نظريات الاقتصاد والتوفير ما إن يحل موسم الأعياد، وتحديدا رأس السنة، فيصرفون في الجيب على أن يأتيهم الفرج من الغيب، لا سيما أن الإدارات الرسمية وغالبية المؤسسات الخاصة تدفع الرواتب عشية 24 ديسمبر (كانون الأول)، الأمر الذي يغري بالتبذير. وعندما تنتهي السهرة وتعود الأفكار اليومية إلى وتيرتها يستعيد المبذرون شكواهم من إهمال الدولة لهمومهم الاقتصادية، ويتجاهلون انغماسهم في الاستهلاك والكماليات، وكأن المثل القائل «على قد بساطك امدد رجليك» لا مكان له في قاموسهم.