فيينا تحتفل بالعام الجديد على الطريقة الإمبراطورية

تذاكر حفلها الموسيقي الشهير يبدأ بيعها منذ بداية العام السابق عن طريق القرعة

عند منتصف الليل يحاول سكان المدينة ما أمكنهم أن يكونوا بموقع يمكنهم من سماع أجراس كاتدرائية القديس استيفان التي تنطلق أجراسها معلنة نهاية عام وحلول آخر (إ.ب.أ)
TT

من يعرف فيينا العاصمة النمساوية كمدينة أرستقراطية رزينة، حيث السيادة مطلقة للموسيقى الكلاسيكية والهدوء والنظافة، فهو على وشك أن يعرف عنها وجها جد مختلف اليوم 31 ديسمبر (كانون الأول) لتبدأ نهار غد في العودة لثوبها المألوف.. وكأن شيئا لم يكن، بعد أن تنجح عربات النظافة التابعة للبلدية في جمع كل المخلفات وغسل الأرصفة والطرقات بالماء والمزيلات.

ويتوقع سكان العاصمة الذين لا يزيد عددهم عن المليون إلا قليلا، سماع طرقعات تتحول إلى فرقعات لأصوات الألعاب النارية، التي توفر لها معظم أسر المدينة ميزانية خاصة تصل إلى آلاف اليوروات سنويا، ومع مضي ساعات اليوم شيئا فشيئا، حتى لما بعد منتصف الليل، فالأمر يصبح حالة عامة من الهياج، وكأنها مباريات عروض مختلفة الألوان والأصوات والأشكال تأتي من كل صوب وحدب، لهذا فإن تجارة المفرقعات والألعاب النارية، سواء المحلية أو المستوردة، لا تبور مع نهاية العام، بسبب شدة الشغف بها، لدرجة أن السلطات قد تدخلت منبهة على ضرورة مراعاة نظم الضمان والسلامة.

ومما يجعل الأمر نقلة سريعة من هدوء تام إلى إزعاج وضوضاء ومرح، أن المدينة ما إن تكمل احتفالاتها بأعياد الميلاد، حتى تستعد للاحتفال بحلول العام الجديد بصورة جد مختلفة؛ إذ إن احتفالات أعياد الميلاد تقوم على تبادل الهدايا والقيام بالواجبات الدينية والأسرية، حيث تتجمع الأسر في المنزل الكبير حول مائدة العيد ذات الطعام المميز، وهذا مما يتطلب السفر أحيانا خارج العاصمة للعودة إلى منزل الأسرة، فإن احتفالات رأس السنة بصورة عامة تتم برمجتها مع الأصدقاء، وكثيرا ما تقتصر على الزوج والزوجة، لمزيد من الانطلاق، أو العشاء مع أصدقاء في مطعم مميز، ومن ثم الانطلاق سريعا للاحتفالات الجماهيرية في الطرقات والميادين والساحات والشوارع، حيث تقل حركة السيارات الخاصة التي تصبح شبه معدومة تلك الليلة، حيث يفضل الجميع الاعتماد على وسائل المواصلات العامة التي تظل في الخدمة طيلة الليل دون انقطاع.

منذ نحو الساعة الثانية ظهر اليوم يبدأ الجميع في الاستعدادات النهائية للاحتفالات، إذ تغلق المتاجر أبوابها في هذا الموعد، لتبدأ الفرق الموسيقية في نصب معداتها وتجهيز مسارحها، بالإضافة إلى شاشات ضخمة تسهل المشاهدة والمتابعة من مختلف الأركان، ومن بُعد، حتى لحظة الزحام عند منتصف الليل.

وانتقالا ما بين أهم شوارع المدينة، كيرتن اشتراسا وتفرعاته وساحة كاتدرائية القديس استيفان بالمنطقة الأولى، إلى أضخم ساحات فيينا أمام مبنى البلدية، ثم دورة إلى ضفتي الدانوب بمنطقة شفيدن بلاتز، وصولا إلى موقع أكبر ملاهي «أو ألبراتا»، انطلاقا إلى مرتفعات كوبنزل، يظل المحتفلون يتجولون للاستمتاع باحتفالات كل منطقة، لنيل قسط مما تقدمه من موسيقى تتنوع ما بين الراب، والبلوز، وهاوس، وإلكترونيك، ومنيمل، وآندي روك، والجاز، والهيب هوب، والروك آند رول، إلى ألعاب نارية وأطعمة بعضها نمساوي ومعظمها من نوعية الأطعمة العالمية السريعة، بما في ذلك أكلات عربية، وأخرى هندية، وبنغلاديشية، وصينية، وأفريقية، وإغريقية، وجميعها يتم تقديمها من محال خاصة فقط بالاحتفالات، في مواقع مؤقتة سريعة الخدمات، معتمدة اعتمادا كاملا على الصحون والأكواب الورقية.

عند منتصف الليل يحاول سكان المدينة ما أمكنهم أن يكونوا بموقع يمكنهم من سماع أجراس كاتدرائية القديس استيفان التي تنطلق أجراسها معلنة نهاية عام وحلول آخر، لترتفع التهاني بعام جديد سعيد، ومن ثم تنتقل الحشود مشيا على الأقدام ما أمكن، أو بواسطة الترمايات وقطارات الأنفاق، إلى محطة الرات هاوس، أو المعتمدية، التي تتحول ساحتها الرئيسية إلى بقعة رقص جماعي، أهم رقصاتها رقصة الفالس.

وفيما لا يبقى كثيرون لأكثر من الثانية أو الثالثة صباحا ليعودوا للاستمتاع بالحفل الموسيقي الخاص الذي تشتهر به فيينا سنويا، وتقدمه في التاسعة من صباح الأول من يناير (كانون الثاني) كل عام فرقة فيينا هيلهارمونيكا الكلاسيكية، التي تصنف على أنها الأولى عالميا، تبقى مجموعات أكثر شبابا للاستمتاع بالحفل من خلال شاشات ضخمة تذيعه حيا من مبنى الميوزك فراين، وتنقله أكثر من مائة محطة تلفزيونية، وما يزيد عن ذلك من محطات إذاعية في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك محطة زيمبابوي وليسوتو وألبانيا والكيب فيرد، وأكثر من محطة فلبينية وعدة أخريات آسيويات وأوروبيات.

في حديث تليفوني خاص لـ«الشرق الأوسط» أوضحت مسؤولة من مكتب مدينة فيينا السياحي أن الورود التي تزين قاعة الميوزيك فراين في هذا الحفل هدية تبعثها سنويا مدينة سانريمو ليقوريا الإيطالية منذ عام 1939.

ومعلوم أن هذا الحفل بالذات تباع تذاكره منذ اليوم الأول من كل عام، ويتم بيعها عن طريق القرعة، حتى لا يظلم أحد، خاصة المعجبين الذين يصلون فيينا خصيصا لحضوره. ومعلوم أيضا أن برنامجه كلاسيكي بحت، يعتمد اعتمادا كاملا على تقديم موسيقى لملحنين من عباقرة الموسيقى النمساوية، خاصة يوهان شتراوس وجوزيف وإدوارد، ليختتم بلحن راديتزكي مارش، الجميل الخفيف الراقص، حيث لا ينتظر الحضور حتى يسمح لهم قائد الأوركسترا بمتابعته تصفيقا، بل يبادرون بأنفسهم ما إن يسمعوا أول رناته.

وبعيدا عن الاحتفالات الشبابية شديدة الانطلاق والعفوية، التي تنتشر في طرقات وشوارع وميادين فيينا، تحافظ مراقصها وقصورها على نمطها الأرستقراطي للحفلات، التي تتطلب حجوزات قبل أشهر، كما تتطلب ميزانيات ضخمة قد تتجاوز 1700 يورو للأمسية للفرد الواحد، هذا إن كان محظوظا ووجد موقعا.

في معظم هذه القاعات والقصور تتلبس القائمين على أمرها روح إمبراطورية تعود بهم إلى عهود أباطرة الهابسبرغ، حيث إن التزام الحضور رجالا ونساء بلباس السهرة ضرورة قصوى لا تلاعب فيها، وذلك شرط يعم على الجميع، بما في ذلك الفرق المشرفة على الأمن وتقديم الطعام ومختلف الخدمات.

وعادة يتم توجيه الضيوف مبكرا للالتزام بالمواعيد، حيث لكل ساعة برنامجها المميز، بل يتم في كثير من الأحيان إخطارهم بنوعية الأغاني والرقصات والموسيقى المصاحبة، دع عنك الوصف الدقيق لنوعية الشراب والطعام الذي يقدم على مراحل، ما بين مشهيات ومقبلات، ثم الطبق الرئيسي، ثم الحلو، ولن يفوتنا أن ننوه على وجود سلطات قوامها خضراوات ملونة ومنمقة، ترص وكأنها لوحات فنية، قصد منها التأكيد على أن ألوان الخص على سبيل المثال لا تقتصر فقط على اللون الأخضر فحسب، بل إن هناك الأخضر بكل درجاته، والبنفسجي، والمائل للحمرة، وآخر تغلب عليه كل هذه الألوان، مما يساعد الطباخين على إتقان رصها فوق صحون بيضاء كانت سابقا صحونا مدورة أو مربعة الأشكال، أما حديثا فقد أصبح منها المستطيل، وذاك الذي حوافه على شكل أمواج، وأخريات مسحوبة، وأخرى مسطحة، وكل ذلك للتأكيد على أن تقديم الطعام لم يعد لمجرد الشبع، بل للاستمتاع والفرجة قبل ذلك.

ونصيحة نقدمها للسياح بفيينا ممن لا حجوزات لهم بهذه القاعات والقصور، بل وحتى المطاعم شديدة الشهرة، أمثال الدراي هوزاغن، وكونغ فون أونغارن، وفابيوس، ثم شفارز كاميل، دو كو، بلاخوتا، بعدم المحاولة الليلة أو غدا طرق أبوابها، وأن يكتفوا بمطاعم فنادقهم، والتي تبذل بدورها جهدا كبيرا لتقديم برامج مميزة أو أن يقصروا عشاءهم على مواقع أقل تحفظا وأكثر شعبية، مع صبر طويل، تحملا لصفوف الانتظار الذي قد يطول.

ولتقديم لمحة فقط عن برنامج سهرة العام من قاعة من هذه القاعات، نختار برنامج الحفل الذي يقدمه قصر الهوفبورغ الإمبراطوري:

* 7.30 يبدأ استقبال الضيوف بمدخل القاعة الرئيسية، حيث يقوم بمهام الترحيب اثنان من كبار المشرفين في هيئة الإمبراطور فرانس جوزيف والإمبراطورة سيسي.

* 8.00 يبدأ تقديم بعض المشروبات في أجواء موسيقية.

* 8.45 يقدم الطعام من 4 أطباق.

* 10.00 تبدأ الدعوة لتناول القهوة.

* 10.45 عرض لرقصة البولنيز المشهورة بقيادة مجموعة من راقصات وراقصي الفولكز أوبرا.

* 12.00 يستمتع الجميع بسماع دقات أجراس كاتدرائية القديس استيفان، يعقبها تقديم التهاني الإمبراطورية.

* 12.15 عرض راقص لرقصة الكوادريللي على ألحان يوهان شتراوس من أوبريت الفليدرماوس أو الوطواط.

* 12.30 رقص.

* 3.30 يختتم الحفل.