«فاترين» تدب في عارضاتها الحياة وينطقن ألما

المرأة البلاستيكية تتماهى مع النساء البشريات

الممثلتان متسمرتان داخل الفاترينة (تصوير: طارق حداد)
TT

كل مساء، وحتى نهاية الشهر الحالي، تتحول خشبة «مسرح المدينة» في بيروت إلى واجهة زجاجية لأحد المحال التجارية، تقف خلفها عارضتان من المفترض أنهما بلاستيكيتان، لكن سرعان ما تعترضان على قدرهما وتبدآن بالحركة والتململ. تنتفض الحياة في العارضتين وهما تتحدثان عن الحب والكره والضجر، وتلك العيشة الصعبة في زنزانتهما الزجاجية. صاحبة الفستان الأحمر تبدو قوية وعارفة بما تريد «أنا بدي أفل (أذهب)، بدي روح لهونيك». ضوء مستدير وصغير، يتحرك وهي تتبعه بنظرها، كأنما تبحث عن بارقة أمل بعيد يراوغها، فيما تحاول صاحبة الفستان الأزرق إقناعها بالبقاء إلى جانبها. يختلط الأمر على المشاهد في بادئ الأمر. هل هو أمام سيدتين اكتسبتا حركات ميكانيكية أم أمام دميتين تحاولان اكتساب شيء من الآدمية. وهي لعبة مقصودة، إذ إن المسرحية تلعب على وتر التماهي بين الشارع والبشر الذين يتحركون فيه، وفاترينة أحد المحلات التجارية بالمخلوقات البلاستيكية الواقفة للعرض وراء زجاجها. وقد اختار لنا المخرج نعمة نعمة أن نعيش تجربة العارضتين بكل ما فيها من قسوة ووحدة وعزلة، وكأنما لا فرق بينهما وبين نساء الشارع اللواتي بتن يشبهن العارضات المسمرات في الواجهات، إلى حد كبير.

شاركت الممثلتان القديرتان اللتان تؤديان المسرحية جوليا قصار وعايدة صبرا في كتابة النص، وقدم العمل على أنه شراكة لمجوعة من الفنانين عاشوا من خلاله تجربة فريدة في التعاون واختمار الأفكار والحيل الفنية. لعبة الضوء على المسرح وتداخل الصور الغرافيكية مع الوجود الإنساني للممثلتين، بلغ مستوى من الجمالية، عوض عن ضعف النص، وبهوت القصة أو الحكاية. فالكلام عن النساء اللواتي بتن يعانين غياب الرجل والبرود الإنساني لم يعد من المواضيع المبتكرة، عدا عن أن عددا من النساء الموجودات في الصالة لم يتمكن من التعاطف مع العارضتين، وهما تدخلان في مونولوج طويل حول رجل واحد أحبتاه معا، ثم غدر بالاثنتين وذهب، ولا تزالان تعيشان على أطلال غرامه البائد. تقول إحدى العارضتين للأخرى «باكرهوا، لأنو فرقنا عن بعض». المونولوج رغم جمله القصيرة المتقطعة التي تتناسب والطريقة الروبوتية والميكانيكية في الكلام، وكذلك بعض مقاطعه المضحكة لم يتمكن من جذب المشاهد. بقيت المشهدية بجماليتها خلف الفاترينة، وبما وظفته من أضواء وصور، وهي تتداخل مع أصوات السيارات المارة وهدير سيارة الشحن التي تنزل البضائع إلى الدكان، أقوى من الكلام المتألم الذي صدر عن العارضتين.

الممثلتان جوليا قصار وعايدة صبرا تبذلان جهدا رائعا، في أداء متميز للعب دور العارضتين. الماكياج أيضا بدا بديعا مع الملابس وطقطقة الكعاب المتواصلة، لكن ذلك كله بقي مجتزئا وعاجزا عن استكمال الحكاية التي احتاجت، ربما، لمزيد من التعميق، والذهاب إلى أبعد مما قالته المؤديتان عن تشابه بلاستيكي بين نساء الشارع ونساء الفاترينات: «هنه صاروا مثلنا عم يحطوا بلاستيك بجسمهن ليشبهونا».

أطبقت الدنيا على العارضة ذات الفستان الأزرق «عم شوف من تحت أرض ومن فوق أرض، ساعديني. ما بدي موت»، تقول لصديقتها. صرخة وجع، وسؤال عن سبب تغير الناس الذين صارت وجوههم باردة، غائمة وضبابية. الغلالة التي غطت واجهة المسرح طوال فترة العرض جعلته «فاترين» حقيقية، وحركة الممثلتين داخل المتجر، بحثا عن بعض الملابس التي تفتقدانها بسبب ارتباطها بذكرياتهما، تجعلهما تدخلان وتخرجان من غرف خلفية نلمح أبعادها بالكاد. ورأينا العارضتين تتسمران في «فاترينة» صغيرة ابتكرت داخل الفاترينة الأساسية، حولها أضواء في لحظات التحنط والصمت. أدوات قليلة استخدمت إضافة إلى الصور والأفلام والغرافيكس، ومنها تلك الحقيبة التي امتلأت بملابس وأوشحة بألوان زاهية، أضافت المزيد من الرونق على الناحية البصرية. قام الفنيون البصريون وهم كثر بعمل متميز، وأمتعتنا الممثلتان بأدائهما الذي كان منتظرا ومتوقعا نظرا لتجربتهما المعروفة في المهارة التمثيلية، لكن بقي السؤال الكبير عند المتفرجين الذين خرجوا متسائلين، كل هذا الجهد الفني ألا يحتاج نصا أقوى وأمتن؟ والسؤال الأكبر ربما هو: هل نفدت مشكلات المجتمع اللبناني حتى تدور غالبية الأعمال عن تلك الحيرة، وذاك القلق الوجودي الذي يعذب النفوس، خاصة نفوس النساء اللواتي لهن من الهموم المعيشية اليومية ما بمقدوره أن يشكل وحيا لمسرحيات لا عد لها ولا حصر؟