أفراح الكرة تنشط ذاكرة المصريين وأحلامهم

تتنوع طقوسها ما بين حمل الأعلام إلى حرق الدمى وإطلاق النكات

إلى جانب رفع الأعلام والرقص وأبواق السيارات تتخذ أفراح الكرة أشكالا أخرى («الشرق الأوسط»)
TT

تقلصت أعداد أعلام مصر بألوانها الحمراء والبيضاء والسوداء في يد رجب، وهو يلوح بها على رصيف شارع شهاب بمنطقة المهندسين بالجيزة (غرب القاهرة). اعتاد صنع المئات منها في حيه الشعبي «ميت عقبة»، كمشروع ينقذه من البطالة شهرا على الأقل، حيث تروج بضاعته وقت المسابقات الكبرى مثل كأس الأمم الأفريقية وتصفيات كأس العالم، ومشاركة النادي الأهلي (القاهري) في بطولة دوري الأبطال. مكانه في شارع شهاب على بعد أمتار من شارع جامعة الدول العربية، مجمع أفراح الكرة في مصر. تتنوع أعلام رجب بتنوع المباريات، وقت المباريات القومية يحمل أعلام مصر، ووقت مباريات الأهلي أو الزمالك يحمل أعلامهما، يبيع العشرات قبيل المباراة، ويحمد الله، بل يقبل يديه حين تتجاوز حصيلة المبيعات الآلاف بعد المكسب، حيث تطوف السيارات في نوبات فرح جماعي تتوقف معها الحياة إلا من الرقص والضحك، والمزاح وإطلاق النكات، ومعها يتضاعف المكسب، فيرتفع سعر العلم من 3 جنيهات إلى 15 جنيها مع زيادة الطلب.

في أول مباريات المنتخب المصري في بطولة كأس الأمم الأفريقية بأنغولا وقف رجب على استحياء ببضعة أعلام منكسرة متبقية من مباراة الجزائر في تصفيات كأس العالم، ثم أردف مجيبا عقب الاستفسار عن سبب قلة بضاعته «حال الفريق ليس مطمئنا، يغيب اللاعبان عمرو زكي ومحمد أبو تريكة، والناس محبطون من فشل الصعود لكأس العالم».

خابت توقعات رجب وصعق الفريق المصري نظيره النيجيري القوي بثلاثية من الأهداف، وندم كثيرا على قلة أعلامه بعد انطلاق مواكب الفرح في الشارع، ثم واسى نفسه قائلا «ملحوقة.. كله خير والفرصة أمامي إن شاء الله.. ربنا ينصر مصر».

وبجانب رفع الأعلام والرقص وأسراب السيارات المحتفية بأبواقها يتخذ الفرح أشكالا أخرى في الكثير من المدن المصرية، ففي بورسعيد الساحلية بوابة قناة السويس يقول شريف صادق، وهو محاسب بإحدى شركات الحاويات بمنطقة شرق التفريعة «يمثل النادي المصري لدى كل بورسعيدي قيمة كبيرة تتعدى قيمته كناد رياضي له فريق لكرة القدم، عند الفوز خاصة على فريق الأهلي، يجسّم البورسعيدية دمية بلباس الأهلي الأحمر.. ثم يحرقونها على طريقة اللنبي».

واللنبي، هو جنرال إنجليزي ثار عليه البورسعيدية، وصنعوا له دمية وأحرقوها في الشوارع، وما زالوا يكررون تلك العادة كل سنة في عيد شم النسيم.

ويتخذ البعد الانتقامي في الاحتفالات طرقا أخرى، منها مثلا تأليف النكات، والتندر بها على الفريق الخاسر، خاصة لو كانت الهزيمة مذلة، وطرفاها ناديين عريقين بحجم الأهلي والزمالك.. فعقب هزيمة الزمالك الشهيرة أمام الأهلي (6/1) في موسم 2002، ظهرت مجموعة من النكت الطريفة منها مثلا أن «أهلاويا تزوج من زملكاوية كي (يستتها)»، في دلالة للرقم 6، بينما قيلت نكتة أخرى «سألوا سائق تاكسي عن الفرق بين التاكسي والزمالك، فقال السائق: التاكسي بيشيل 4 ركاب أما الزمالك فبيشيل ستة»، وقد حفظ التاريخ نكتة شبيهة عقب هزيمة تاريخية للأهلي من فريق السكة الحديد في ستينات القرن الماضي (6/0)، وقتها راجت نكتة تقول «هزيمة الأهلي من الستة الحديد سكة صفر».

وامتد الانتقام الفكاهي ليشمل نشرة أخبار كوميدية عن دك حصون الزمالك، بينما لجأ بعض المتعصبين إلى استخدام حيوانات أليفة كالحمير والكلاب وصبغها بلون الفريق المنافس، وكتبوا على ظهورها نتيجة المباراة، في الوقت الذي بالغ فيه آخرون فحملوا نعشا ومشوا به في الشوارع وغطوه بعلم الزمالك.

منذ بداية تنظيم مصر لكأس الأمم الأفريقية 2006، دخل الجنس اللطيف عرس الاحتفال بمباريات الكرة، فبعد سلسلة من عمليات التطوير التي شهدتها الملاعب أصبح قضاء اليوم في المدرجات أمرا ممتعا، لا تعاني الأنثى في الدخول مثل الماضي، وتتحول المشاهدة إلى «كرنفال» للفرح، مع صبغ الوجوه بألوان العلم، وارتداء «تيشيرت» الفريق، ومعايشة حالة من الفرح قلما تتكرر.

ومن بين الطقوس الرائجة الآن للفرح الكروي، اللعب على مفردات الوطنية غنائيا، فمع الوصول إلى أعتاب كل بطولة يضيف المطربون لأنفسهم موسما جديدا للرواج، وتسجل الأغاني على عجل، وتصدح في الأسواق مستغلة حالة الفرح العام، وأنتج ذلك أرباحا ضخمة للمنتجين والقنوات الفضائية، فما بين الغناء للنادي الأهلي ولاعبه الأشهر أبو تريكة بعد وصوله لكأس العالم للأندية باليابان مرتين، إلى الغناء لمصر ونيلها، وتدخل في الأمر بعض المخاطرة، تصيب مرات وتخفق اللعبة مرات أخرى، مثلما حدث عقب هزيمة الأهلي في النهائي الأفريقي عام 2008، وما جرى عقب ابتعاد مصر عن الذهاب لكأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا عقب الهزيمة من الجزائر في أم درمان.

يبالغ المصريون في الاحتفال بالفوز الكروي، وقد ظهر ذلك في استقبالهم بمئات الآلاف لفريقهم القومي عقب عودتهم من غانا بكأس أفريقيا في 2008، وبعد التمثيل المشرف للأهلي في بطولة العالم باليابان، ومثلما توقفت الحياة في القاهرة تقريبا بعد هزيمة مصر لإيطاليا في كأس القارات نهاية العام الماضي، وفسر متابعون سر الكرة والاحتفاء بها في مصر، فقالوا إنهم مثل كل شعوب العالم الثالث يفرغون فيها إحباطاتهم القومية، ويمارسون خلالها ما حرموا منه في السياسة، ومن هنا حرص السياسيون على النيل من كعكة كرة القدم لاكتساب شعبية، يظهرون وقت الفرح ويرتدون أزياء رياضية، بينما يغضبون مع كل هزيمة وانكسار معلنين تأييدهم لحقوق متابعيها، بينما تحتفظ رياضة كرة القدم ذاتها بدراما وجنون منبته إمكانية تغيير النتائج في دقائق معدودة مثلما تم في مباراة مالي وأنغولا بكأس الأمم عندما أحرزت مالي أربعة أهداف في دقائق دراماتيكية لتتعادل، وهي عناصر تزيد من جرعة الجنون، وتمنح العقل إجازة مؤقتة وقت الاحتفال بالفوز.