مهنة المحاماة لم تعد تذكرة الوصول السريع إلى الثراء

الشركات القانونية الأميركية طردت ما يزيد على 4600 موظف العام الماضي

الكثير من خريجي كليات الحقوق الجدد ومن أشهر الجامعات الأميركية «رابطة الآيفي» لا يجدون عملا على الإطلاق (نيويورك تايمز)
TT

يرسم مسلسل «The Deep End»، الذي يعرض للمرة الأولى على قناة «إيه بي سي» هذا الأسبوع عالما قانونيا افتراضيا للمحامين الشباب في إحدى شركات المحاماة، يبدو فيه العناية بالمظهر وارتداء البدلات الفخمة والتعامل مع العملاء العابثين مقياس التقدم داخل الشركة.

ويصور المسلسل الحياة داخل المكاتب الأنيقة في شركة «ستيرلينغ هاغل أوبنهايم آند كرافت»، الموجودة في ناطحة السحاب الشاهقة في لوس أنجليس، مليئة بالبهجة والمغامرة. حيث يقول كبير المحامين لديلان، الذي تخرج حديثا في كلية حقوق كولومبيا خلال المقابلة: «هذه فرصتك الثمينة، واستراحتك بين السحاب وتذكرتك الذهبية».

وربما يتذمر المحامون من أن الشركة مخادعة وآلة تطحن المحامين الشبان. لكنهم مع ذلك يجدون الوقت للمرح والشراب ولعب كرة السلة على سطح المبنى وبالطبع الحب.

حقيقة الأمر أن مسلسل «ذا ديب إند» تم التفكير فيه في عام 2007 الذي شهد أوج الازدهار بالنسبة لرواتب المحامين التي تبدأ بـ160000 دولار، مع إمكانية توفير فرص عمل بدوام كامل لطلاب كليات الحقوق الحاصلين على 150 درجة في امتحان القبول في كلية الحقوق.

لكن تلك الأيام قد ولت، نظرا إلى أن المهنة تمر بأسوأ فترات ركود منذ عقود، مع خفض الوظائف والمكافآت وبات المحامون في الشركات القانونية يشعرون بأنهم لا يتجهون إلى القاع فحسب، بل إنهم يغرقون.

كان بإمكان المحامين الذين دخلوا مجال المهنة أن يتوقعوا حياة من الراحة والأمن والتقدير الاجتماعي، كما كان الأمر خلال السنوات القليلة الماضية، لكنهم ووجهوا الآن بمشهد مختلف كلية. وتشير مدونة «لو شاكس»، التي تتابع عالم المحاماة، إلى أن الشركات القانونية طردت ما يزيد على 4600 موظف العام الماضي، وأن مكافآت من نجوا وتمكنوا من الاحتفاظ بأعمالهم في تضاؤل مستمر، وأن أعدادا من الشركات القانونية تقوم الآن بتقييم رواتب محاميها على أساس الأداء بدلا من الزيادة التلقائية. ومن السهل بالنسبة لأولئك الذين يبدأون ممارسة المهنة إدراك تغير هذه الصورة في وقت مبكر جدا.

وتستدعي جاكلين مونا موزيتوا، التي تعمل بشركة قانونية منذ عام 2006 في بيلسبري بسان فرانسيسكو الصورة التي رسمتها لنفسها خلال بداية عملها في مجال المحاماة بالقول: «اعتقدت أن بإمكاني شراء منزل في سن الثالثة والعشرين، لكن إذا استمر الأمر على هذا النحو وأنا في الثالثة والعشرين فالله وحده هو الذي يعلم كيف سيكون عليه الحال عندما أصل إلى سن الأربعين».

قبلت جاكلين عبء العمل المرهق، سيئ السمعة، طمعا في قضاء العطلات في الكاريبي وشقة كبيرة ومريحة، لكن المحامين الشباب الذين يدخلون إلى المجال لم يعد بمقدورهم الشعور بمثل هذه الضمانات. وتقول موزيتوا التي تركت بيلسبري بعد عام من عملها لبدء شركتها القانونية الخاصة: «لو كنت أعمل في شركة قانونية الآن لكان علي أن أعمل بكد أكثر مما أقوم به هنا ملايين المرات، لكي أضمن أنه عندما تحدث تخفيضات في عدد موظفي الشركة لن أكون بينهم».

من بين النماذج الأخرى المحامية الشابة التي كانت ضمن العشرة الأوائل في كلية الحقوق عام 2008 وعملت بعد التخرج لمدة عام في شركة ضخمة في شيكاغو فقالت إنها قضت عاما تحاول أن تبدو مشغولة لأن الأعمال تضاءلت، قبل أن تفقد عملها مع ربع العاملين في الشركة للسنة الأولى.

وقالت: «اعتدت أن أجتمع أنا وزملائي في مكتب، واحد منا بالقرب من الباب ونقول: أنا أكره حياتي، ولماذا أقوم بذلك؟» وكغالبية الشباب الآخرين الذين أجريت معهم مقابلات من أجل هذا المقال، طلبت أن لا ينشر اسمها خشية تعرض مستقبلها، المترنح بالفعل على سلم المحاماة، للخطر. يعود السبب الرئيسي وراء هذا الأزمة التي تعيشها شركات المحاماة إلى الركود الاقتصادي الذي أثر بصورة كبيرة في الشركات - الخدمات المالية والعقارات والتقنية - التي كانت تشكل معينا لأتعاب شركات المحاماة. إضافة إلى أن الشركات العميلة التي نجت من الأزمة تقوم بمفاوضة المحامين، حيث يتفاوض الكثير منهم على أجر محدد للعمل وهو ما يعني أن الشركة القانونية لن تتمكن من الحصول على أجرها بالساعة، كما جرت عليه العادة منذ أعوام قلائل.

ويقول دانيل لوكاسيك، المحامي في مدينة بافلو بولاية أوكلاهوما، الذي يدير موقع معلومات وتواصل باسم «Lawyers With Depression»، إن المحامين الأكفاء يبدون قلقهم من أن أداءهم البارز لم يعد كافيا لحمايتهم. وأضاف أن نسبة الزيارات إلى موقعه ارتفعت بنسبة 25 في المائة منذ يونيو (حزيران) لتصل على 25000 زائر شهريا.

ودلل لوكاسيك على ذلك بالقول إنه تلقى رسالة من شخص يقول إنه يعمل منذ خمس سنوات في شركة محاماة في منهاتن، يشكو فيها من أنه يشعر بأنه لم يعد ذا قيمة على الرغم من أدائه البارز.

ويستدعي لوكاسيك إلى ذهنه ما قاله الرجل، قال لي: «ما الذي ينبغي علي القيام به أكثر من ذلك. إنني أعمل لساعات طويلة وأنا عضو من فريق، لكنه أشار إلى أن من الممكن أن يفقد وظيفته. وأنه خريج من جامعة يال، وأنه يعمل في واحدة من بين أكبر 20 شركة محاماة».

وتقول إليزابيث تيلينغاست، المحامية السابقة التي تعمل الآن في مجال الطب النفسي: «معروف أن المحامين يتعرضون إلى مستويات عالية من الضغوط والقلق، لكنها ازدادت، ومعنوياتهم في انخفاض دائم».

وأظهر المسح الذي أجراه اتحاد محامي مدينة نيويورك أن 50 في المائة من المحامين يسعون إلى الحصول على استشارات نفسية من برنامج قائمة الصحة العقلية للتواصل مع المحامين لأن قلقهم الرئيسي ارتفع من 40 في المائة في عام 2005.

ربما تكون الحياة الدائمة للمحامين في الشركات القانونية طاحونة لا تنتهي اعتادوا فيها على السهر حتى ساعات متأخرة من الليل، لكن تلك لم تكن أزمة وجودية، كما يقول البعض اليوم. فالناس يشكون لكنهم لا يصرخون.

وانتقدت محامية تعمل في شركة قانونية عريقة، بغضب بالغ، الحياة في شركات المحاماة تحت عنوان «العذاب القانوني» على مدونتها «Sweet Hot Justice» واصفة شركات المحاماة الكبرى بأنها «عذاب أبدي».

وأشارت، خلال المقابلة التي أجريت معها، إلى أن «أسوأ ما في الأزمة الحالية التي تشهدها صناعة المحاماة أنها سدت الطريق أمام الطرق التقليدية، من المعاناة في الشركة لعدة أعوام حتى تتمكن من تسديد أقساط قروض تعليمها، ثم الانتقال إلى فئة الرواتب المنخفضة التي تكون في الوقت ذاته مريحة بالنسبة للمحامين داخل الشركة».

وقالت: «أنا سعيدة رغم الانخفاض في راتبي. فعلى الرغم من رغبتي في ترك الشركة، فإنه لا توجد أعمال. فالشركات الكبرى أبوابها مزدحمة بالباحثين عن العمل».

الألم في حصول شخص يبلغ من العمر 26 عاما يحصل على رقم بمئات الآلاف قد لا يبدو كبيرا في بلد تتراوح فيها نسبة البطالة 10 في المائة. لكن المحامية المغتاظة تحتج على ذلك بالقول إن هذا الرقم الذي يبدو ضخما بالنسبة للبعض، ضئيل جدا إذا ما قيس بعدد ساعات العمل. وأصرت: «إذا قسمت هذا المرتب على عدد ساعات العمل فسترى إننا نتقاضى أقل من جليسة أطفال، وليس كمربية أطفال، بل جليسة أطفال في المدرسة الثانوية».

لكن على الرغم من ذلك هي واحدة من المحظوظين فلا تزال تحتفظ بوظيفتها.

وتقول إلين ترافيس، رئيس برنامج مساعدة المحامين في اتحاد محامي نيويورك إن الكثير من خريجي كليات الحقوق الجدد لا يجدون عملا على الإطلاق: «هناك كثير من الجمود في تقديم الوظائف».

بعض الشركاء في الشركات القانونية يقولون إن الجيل القادم يجب أن يجني راتبا أقل من العمل القانوني. ويقول ماثيو فيلدمان، المشارك في مكتب «ويلكي فار آند غالاغار» للمحاماة في نيويورك: «لم يعد المستقبل يبشر بأن تكون شهادة القانون التذكرة الذهبية للحصول على دخل كبير بمئات الآلاف من الدولارات». سيتمكن الأشخاص الموهوبون من تحقيق تقدم داخل الشركات. وأضاف: «في الماضي كان العاملون في الشركة يعتقدون أنهم إذا ما خرجوا كل يوم دون أن يوجهوا إهانة إلى أحد فإنهم بذلك سيستمرون في الشركة إلى ما لا نهاية».

تبدل الأحوال في صناعة المحاماة لم يقتصر على مجرد انخفاض الدخول، بل تعداه إلى إعادة صياغة ثقافة الشركات القانونية. فالمكانة العالية والاعتداد بالنفس لكونك محاميا تعرضت إلى هزة كبيرة ولم تعد كما كنت عليه من قبل، فمن قبل كان بمقدور المحامين أن يقولوا لأنفسهم إنهم سادة الكون مثل المصرفيين الاستثماريين.

في السابق كان المحامي شابا يستيقظ في الواحدة صباحا لحضور جلسات التحقيق عبر تذكير نفسه بأنه يسير على خطى قاضي المحكمة العليا لويس بيرناديس، أو المحامي الشهير كلارينس دارو، أو على الأقل الممثلة آلي ماكبيل في المسلسلات القضائية.

ويشير ديفيد لات، مدير التحرير لمدونة «Above the Law» الشهيرة التي تهتم بشأن الصناعة القانونية إلى صعوبة الحفاظ على هذا النوع من الشعور بالتقييم في الوقت الحالي لأن عقد عملك تمت صياغته للحصول على راتب منخفض وعميلتك التي تنفصل عن زوجها بمقدورها التعامل مع قضايا الانفصال بمفردها في وثيقة طلاق بقيمة 31.99 دولار. ويقول لات خريج جامعة يال والمحامي السابق في إحدى الشركات القانونية الكبرى: «إن هناك شعورا مختلفا يسود أوساط المحامين، ففي بعض أرباع العام يتغلب شعور الإرهاق بالتعب والرغبة في الاستقالة على الشعور بالغضب».

وأوضح أنه في عام 2008 عندما أعلنت شركات المحاماة عن الخفض في المكافآت والوظائف «كانت هناك صرخة وشعور ما بالاستحقاق. ربما كان ذلك مقبولا في عام 2007، لكن مع فقد 14000 محام وعامل في المجال القانوني وظائفهم منذ بداية 2008 فإن الشكوى من أن شركتك لم تقدم جلسات مساج يوم الجمعة يبدو أمرا مثيرا للشفقة».

* خدمة «نيويورك تايمز»