«فان غوخ الحقيقي».. صورة جديدة للفنان عبر رسائله

في معرض ضخم تحضنه الأكاديمية الملكية البريطانية للفنون

خطاب من فان غوخ لأخيه ثيو يحمل رسما تحوّل في ما بعد إلى لوحة «جذع الصفصاف»، وهي إحدى لوحاته الهامة (يسار) (الصورة من متحف فان غوخ بأمستردام ودار كريستيز)
TT

تقيم الأكاديمية الملكية للفنون في لندن معرضا لرسائل ولوحات الفنان الهولندي فان غوخ بعنوان «فان غوخ الحقيقي: الرسام ورسائله» يتوقع المراقبون أن يكون من أضخم المعارض التي تستضيفها العاصمة البريطانية والأكبر للرسام الراحل في إنجلترا منذ أكثر من 4 عقود. ويكتسب المعرض أهميته من وجود رسائل الفنان الراحل التي ضمت الكثير من التفاصيل حول عمله الفني ولوحاته بشكل قد يغير الكثير من المفاهيم المسبقة عنه.

المعرض الذي أقيم على امتداد مجموعة من صالات العرض في الأكاديمية يقرن بين اللوحات ومقتطفات من رسائل الفنان التي يشرح فيها لأخيه ثيو وعدد من أصدقائه الفنانين ما الذي يدور بخاطره، أو يحدثهم عن ظروف عمله بلوحة أو عن تفاصيل صغيرة ألهمته برسم شيء معين. وتعمل تلك المقتطفات على رسم صورة واضحة وحميمية لكل لوحة معروضة، وتكتسب بهذا أعمال فان غوخ بعدا آخر يخرج بها عن إطار اللوحات التي أصبحت تباع بشكل تجاري واسع خرج بها عن إطارها الفني العميق إلى مجرد لوحات جميلة تستخدم للزينة والديكور.

وتقول أمينة المعرض آن دوماس في لافتة علقت في مدخل المعرض إن «خطابات فان غوخ تنبع في أحد المستويات من رغبة إنسانية بسيطة للتواصل مع روح قريبة منه، ولكنها أيضا (الخطابات) ترشدنا إلى عالمه الغني والمتعدد الوجوه وإلى الخلفية الفلسفية للوحاته ومعرفته الواسعة بالأدب والفن».

وإلى جانب لوحة لمنظر طبيعي وضع خطاب بخط يد فان غوخ في إطار زجاجي يتحدث فيه إلى أخيه ثيو عن نوع من الأقلام الرصاص استخدمه في بعض الرسومات، والمدهش في الخطاب هو التفاصيل الدقيقة التي يقدمها فان غوخ لأخيه حول نوع القلم وشكله وسعره ومدى وضوح الخط فيه، ويتوقف هنا لحظة ليرسم مكعبا يلونه بظل ثقيل من قلمه للتوضيح على جودة القلم، ويضيف في آخر رسالته رسما آخر للوحته القادمة. الخطابات التي تحملنا إلى داخل عقل الفنان تعبر عن اهتماماته بأدواته الفنية، ففي خطاب آخر إلى صديقه الفنان فان رابارد حول فرش الرسم التي يستخدمها في إحدى لوحاته ويضع لها رسما صغيرا بين الأسطر.

المعرض يقدم إلى جانب 65 لوحة و30 رسما نحو 35 خطابا لم تعرض كثيرا نظرا لحالتها الرقيقة. وقد قام متحف فان غوخ في أمستردام بتوفير الخطابات وأيضا 12 لوحة من مقتنيات المتحف، بالإضافة إلى عدد من اللوحات المستعارة من متاحف عالمية مثل متحف الفنون الجميلة في بوسطن ومتحف متروبوليتان بنيويورك ومتحف بول غيتي في لوس أنجليس وعدد من المقتنيات من المجموعات الخاصة من حول العالم.

الجدير بالذكر أن جل خطابات فان غوخ كانت موجهة إلى شقيقه ثيو، وهو وسيط فنون ساند أخاه خلال مراحل حياته الفنية. كما كتب فان غوخ أيضا عددا من الخطابات إلى أفراد عائلته مثل أخته ويلمين. ومن العالم الفني راسل فان غوخ الفنانين أنتون فون رابارد وإميل برنارد وبول غوغان.

الناظر إلى الخطابات المدهشة بالتضافر فيها بين الرسومات المعبرة والكلمات يكاد يعبر الحواجز التي وضعت خلفها تلك الخطابات إلى عالم ذلك الفنان الذي عاش حياة مضطربة وينغمس في عالمه ومراحل حياته الفنية التي عبر عنها المعرض بتقسيمها إلى خمسة أقسام منها قسم عن الألوان وآخر عن الأدب في لوحات فان غوخ وأيضا قسم عن لوحات البورتريه.

وعبر اللوحات التي تعبر عن الطبيعة يشير دليل المعرض إلى أن الفنان بحكم نشأته البروتستانتية في جنوب هولندا دأب على ملاحظة الطبيعة والاهتمام بها بشغف، ومنها أبدع أجمل لوحاته على الإطلاق ما بين حقول القمح الصفراء وزهور عباد الشمس الشهيرة.

ويستعرض المعرض التغيرات في أسلوب فان غوخ عبر مراحل عمله المختلفة واختلاف استخدام الألوان في لوحاته، وكمثال يشير إلى انتقاله من الألوان الداكنة إلى الألوان الساطعة بعد انتقاله للعيش في منطقة بروفانس بفرنسا في عام 1888، وتشير إحدى اللافتات إلى أن الألوان الطبيعية في منطقة جنوب شرقي فرنسا التي تتمتع بطقس معتدل مشمس كانت مناسبة لأهداف فان غوخ وأسلوبه في استخدام الألوان في لوحاته. وتضيف أمينة المعرض أنه أبدع هناك مجموعة من اللوحات الباهرة التي تعتمد على الألوان المكملة لبعضها حسب تعبير فان غوخ في أحد خطاباته «لا أزرق من دون أصفر أو من دون برتقالي»، وتظهر تلك المرحلة أن الألوان بالنسبة لفان غوخ لم تعد هناك فقط لتعكس الطبيعة وإنما لتعكس الإحساس القوي والطاقة البصرية. وتقدر قيمة اللوحات الـ65 والرسوم الـ30 لفان غوخ في هذا المعرض بما لا يقل عن 4.8 مليار دولار.

ومن خطابات الفنان المعروفة خطاب يحمل تصويرا لفلاح يحرث في حقله وفوقه كتب فان غوخ «يجب أن نعرف ونقتنع بأننا نقوم بواجبنا مثل ذلك الفلاح الذي يحرث أرضه».

وفي رسالة أخرى فبل انتحاره في عام 1890 يقول فان غوخ لأخيه «أود أن أكتب لك وأخبرك عن أمور كثيرة، لكنني ما عدت أرى أي معنى لذلك». وأضاف «أنا أحاول أن أبلي بلاء حسنا تماما كما فعل رسامون أحببتهم وأعجبت بهم كثيرا».

وفي قسم من المعرض يحمل عنوان «الأدب» تعكس بعض اللوحات والخطابات تأثير الأدب على تكوين فان غوخ، ويلاحظ من خطاباته لأخيه ثيو تحديدا الاقتباسات من روايات إميل زولا وهو الكاتب المفضل لفان غوخ وأيضا للروائي البريطاني تشارلز ديكينز. وتحت إحدى لوحاته التي تصور مجموعة من الكتب المتراصة نجد مجموعة من الكتب القديمة بنسخ يعود تاريخها إلى عصر فان غوخ هي من أهم الكتب التي طالعها الفنان وأثرت على حياته.

ويبقى القول إن الرسائل المتناثرة عبر قاعات المعرض تعتبر أيضا أعمالا أدبية في حد ذاتها، فهي تتعدى التعبير عن المشاعر الشخصية فتتحول إلى شهادة على عقلية وفن رجل عبقري، ولعل المعرض بدمجه اللوحات الشهيرة مع كلمات الفنان يريد أن يقدم صورة جديدة للفنان، صورة شخصية رسمها فان غوخ لنفسه ولكن ليس بخبطات فرشاته الشهيرة وإنما بكلمات وأحرف.

وفان غوخ لم يبع أي لوحة رسمها طوال حياته التي عانى خلالها من نوبات متكررة من المرض العقلي، حتى إنه أقدم خلال إحدى النوبات على قطع جزء من أذنه اليسرى، قبل أن يقدم في العام 1890 على حمل مسدس وإطلاق رصاصة على صدره حيث فارق الحياة.