البدو يرقصون الباليه في روما

في لقاء بين الفلامنكو والعربي الشرقاوي

جانب من عرض سيدى العربي الشرقاوي وماريا باغيس («الشرق الأوسط»)
TT

هل تتماشى موسيقى شوستاكوفيتش وبيتهوفن الكلاسيكية، مع رقص الفلامنكو الإسباني، وأصله كلمة عربية حورَّها الإسبان «فلاح منكم»؟ وهل يمكن لبدو الصحراء أن يرقصوا موسيقى الباليه؟ أثبتت راقصة إسبانيا الموهوبة ماريا باغيس وفرقتها الراقصة، نجاح فكرة مزج أصناف الموسيقى مع بعضها بعض في احتفال تسلم إسبانيا عام 2010 لرئاسة الاتحاد الأوروبي هذا الشهر، بأدائها لموسيقى هذين العبقريين بأسلوب الفلامنكو الشعبي الراقص، وقبلها قامت بعملية مماثلة في عرض مميز أقامته على مسرح أوليمبيكو بروما مع راقص بلجيكي فذ من أصل مغربي، وهو سيدي العربي الشرقاوي، حين مزج الاثنان فن الغرب والشرق معا بأسلوب انسيابي رائع، تنمحي فيه ضبابية الحدود بين البداوة والباليه.

أقيم العرض برعاية مهرجان روما - أوروبا، لكن المشاهد فيه كانت مستوحاة من الصحراء ورمالها وكثبانها في عالم غريب وفضاء متسع، يشمل الإنسانية بأكملها، حيث يحتمي الصوفيون وأصحاب العقائد بين تلال الرمال التي شكلتها الرياح، وتتراءى أمامنا الكنائس البيزنطية الشرقية والأعمدة الإغريقية والخيام البدوية وكأنها لوحات جصية جدارية، ثم تبرز إحدى أشهر راقصات الفلامنكو ماريا باغيس بثوب فضفاض مطرز بالذهب، ويلحقها العربي الشرقاوي بجسمه الرياضي اللدن، ليكوِّنا قوسا توهمنا بأنها قنطرة تمر منها الرياح.

تنساب الموسيقى الجديدة المبتكرة للموسيقار البولندي المعاصر شيمون بريوسكا وزميله الإسباني الشاب روبين ليبانيغوس من الأوركسترا الإسبانية ثم الأوركسترا المغربية لترافق الرقصات، وتنقلنا من جو الفضاء إلى الجو العربي البدوي، ثم إلى رقص الفلامنكو القوي الجارف بإيقاعه المقتبس من الهند منذ أن طرد جنكيز خان وخلفاؤه الغجر الذين تفرقوا في بلاد العالم، وانتهى المطاف ببعضهم في إسبانيا، فمزجوا الموسيقى العربية الأندلسية وأغاني العذاب ذات الروح السوداوية بالرقص الإيقاعي العنيف، والتصفيق مع ضرب الأرجل على الأرض.

رقص باغيس كان مذهلا، على الرغم من أنها تكبر العربي الشرقاوي بعدة سنوات وتفوقه وزنا، لكن أداءها يكشف عن موهبتها وخبرتها، التي جعلتها إحدى نجمات مصمم الرقصات والراقص الإسباني الشهير أنطونيو باغيس، وحولتها إلى أكثر من راقصة مميزة، فهي أيقونة اسبانية معبودة أينما حلت. يذكر المشاهدون أنها لبت قبل ثلاثة أعوام دعوة الراقص الروسي العالمي ميخائيل باراشنيكوف للرقص في نيويورك في المركز الفني الذي يحمل اسمه، وأدت عرضا خاصا من تصميمه لا ينساه كل من شاهده.

أما العربي الشرقاوي فولد عام 1976 في بلجيكا من أب مغربي هاجر إليها وتزوج بسيدة بلجيكية، وهو من رواد رقص الباليه المعاصر النابغين الذي فرض جدارته ببراعته وجسمه المطاطي وأدائه الخلاق على كافة مسارح أوروبا في السنوات الأخيرة.

كان الجمهور الإيطالي متحمسا لمتابعة رقص الباليه الحديث، كما بدا أكثر إصغاء حين استمع للغناء العربي والأنغام التقليدية وأشعار الأندلس بصوت المغني المغربي محمد العربي السرغيني تقول «الحسن قد تحكم»، والخاتمة التي لاقت التصفيق المستمر مع إنشاد البيت المعروف «الحب امتحان للفتى».

سألت أحد المشاهدين الإيطاليين: هل تعجبك هذه الموسيقى؟ وهل تفهم مغزى هذا الشعر؟ فأجاب: الألحان مختلفة عما نألفه في الغرب، لكنها جميلة وتعكس روح الشرق، ورقص الشرقاوي يجعلها عالمية.

إن تعاون باغيس مع الشرقاوي مهم من النواحي كافة، فهي تختار الأفضل من الناحية التقنية الفنية وأسلوب الرقص، فاكتشفته كما أحبت الرقص معه منذ أيام تعاونه مع أكرم خان عام 2007. أعطى العربي الشرقاوي لباغيس الفرصة في العرض الحالي لتعود إلى الماضي فتستحضر المستقبل، وتقدم رسالة إنسانية عالمية.

حينما رأينا الاثنين يرقصان معا، لاحظنا الفرق الكبير بينهما، فهي تستعمل رجليها، وهو يرسم أحلامه على رمال الصحراء بيده، فلكل منهما طريقته الخاصة، لكن الانسجام بينهما كان غريبا ومقنعا، وكأنهما يتكاملان مثلما يتكامل الغرب مع الشرق في بوتقة واحدة. واختيار الصحراء كمكان للأحداث كان فريدا، لكن الصحراء مكان غير عادي فعلا، ومنه تنطلق الأحداث العظمى والرجاء في كون مليء بالنشوة والمحبة.