دانييل زوجة فرانسوا ميتران تتحدث عن حياته السرية و«المرأة الأخرى» والدة مازارين

في كتاب جديد صدر في باريس بمثابة الوصية الأخيرة

دانييل ميتران («الشرق الأوسط»)
TT

لم تكن دانييل، قرينة الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، ميالة إلى الظهور أثناء ولاية زوجها، فقد كانت لها نظرتها الخاصة إلى الأمور، والتي عبرت عنها من خلال حماستها لقضايا حقوق الإنسان والدفاع عن الأقليات المقهورة. لكن السيدة العجوز، التي بلغت الخامسة والثمانين من العمر، عرفت منذ رحيل زوجها كيف تجتذب الأضواء إليها وإلى ذكرى الرئيس ميتران، مرة من خلال مزاد علني على ثيابه، ومرة من خلال بيع أثاث بيتها لتسديد كفالة تسمح بخروج ابنها من السجن بعدما تورط في قضايا مالية. وكان آخر ظهور لها في الخريف الماضي، عندما سافرت إلى مدينة أربيل في العراق لحضور افتتاح أول مدرسة فرنسية جرى افتتاحها في المنطقة وحملت اسمها، باعتبارها نصيرة الأكراد منذ سنوات طوال.

اليوم، تأخذ دانييل ميتران الكلام، مجددا، بعد صدور سيرة جديدة لها عن منشورات «شيرش ميدي» في باريس، تستعيد فيها ذكرياتها مع زوجها وتحدد فيها مواقفها من قضايا عدة، حسب التسلسل الألفبائي للحروف في اللغة الفرنسية. والكتاب الذي حمل عنوان «كلمة كلمة» هو ثمرة محاورة مع الصحافي يورغوس آرشيماندريتيس، وفيه تتطرق «الزوجة الرسمية» إلى قضايا حساسة كثيرة، منها وجود «امرأة ظل» في حياة زوجها، لازمته لأكثر من ربع قرن، وأنجبت منه ابنة، وكانت أكثر من مجرد عشيقة سرية. ولا يزال الفرنسيون يتذكرون ذلك المشهد الفريد للزوجة وهي واقفة إلى جوار العشيقة في جنازة ميتران، تودعانه إلى مثواه الأخير، بناء على وصيته، كما يتذكرون بكثير من التقدير عناقها لمازارين، ابنة غريمتها.

وتكشف السيدة دانييل، في الكتاب، أن ذلك الجانب الخفي من حياة زوجها لم يكن يخصها، وأن قبولها بوجود المرأة الأخرى، آن بنغو، في الجنازة، دفع كثيرا من النساء «السريات» إلى إرسال خطابات لها للتعبير عن شكرهن، لأن موقفها كان بمثابة الاعتراف بوجودهن.

بمناسبة صدور الكتاب، أجرت مجلة «باري ماتش» مقابلة مع دانييل ميتران تحدثت فيها، بصراحة، عن رأيها في علاقات زوجها الغرامية ورغبته المستمرة في إغواء النساء. وكشفت أنها تحب الغواية، أيضا، وقد حازت الإعجاب خصوصا أنها كانت لطيفة الشكل. لكنها تعترف في الكتاب بأن «السكوت» عن مغامرات زوجها لا يعني أنها كانت تجهل ما يجري وراء ظهرها.

عن علاقتها بمازارين، إبنة زوجها «الطبيعية» حسب التعبير الفرنسي المحتشم، قالت دانييل إنهما تتحدثان بالهاتف بين وقت وآخر، وإن الصلات بينهما ممتازة، لكن لقاءاتهما قليلة بسبب «كثرة مشاغل مازارين التي تنتظر مولودها الثالث». وهنا قالت لها محررة المجلة إن الطفل رأى النور منذ أيام قلائل. وردت: «آه.. سأتصل بها.. لقد ولد طفلها الأول في الوقت نفسه، تقريبا، من ولادة أول حفيد لولدي، وقد دعوت مازارين للحضور إلى منزل العائلة الريفي لكي نضع الطفلين واحدا إلى جوار الآخر».

من أين تستمد هذه المرأة صلابتها الداخلية؟ وكيف يمكن لزوجة أمضت أكثر من نصف قرن مع زوجها أن تتقبل ابنته غير الشرعية وأحفاده منها؟ إن حكاية لقاء دانييل وفرانسوا ميتران تبدو معروفة لكثرة التطرق إليها في كتب سابقة، لكنها تبقى أشبه بالمصادفات السينمائية التي كتبها سيناريست بارع، وجعل من شابة خجول زوجة لسياسي صاعد سيصبح، ذات يوم، رئيسا للجمهورية، وستحمل زوجته لقب «الفرنسية الأولى». وقد بدأت الحكاية ذات يوم من أوائل عام 1944، بينما كان ميتران يزور رفيقته كريستين كوز، شقيقة دانييل. فقد لاحظ، على مدفأة صالة الجلوس، صورة شابة ذات ملامح هادئة لا تخلو من جمال، وعندما سأل مضيفته عنها قالت: «إنها أختي». ومن دون تردد، نظر ميتران إلى عيني كريستين وقال: «صاحبة هذه الصورة ستصبح زوجتي». وطلب أن تعرفه إلى شقيقتها، فقامت كريستين بترتيب لقاء جمعها مع دانييل والشاب المعجب ميتران، في أحد مطاعم حي «سان جيرمان» في باريس.

بعد ذلك العشاء الأول، قالت دانييل لأختها إنها لا تميل إلى ميتران ولا يمكن لها أن تحبه، فهو ناضج أكثر من اللازم، وهي تعشق الفتية اليافعين. لكن المعجب لم يتراجع، وبقي يتردد على أسرة الفتاة ويدعوها إلى القيام بنزهات معه، إلى أن تغلب على نفورها منه، وحل محله حب هادئ، هذا مع العلم أنه كان قد ارتبط بخطوبة قصيرة مع شابة غيرها، واضطر إلى فراق محبوبته بعد استدعائه للجيش في الحرب العالمية الثانية، وكان يرسل إليها من الثكنة رسائل حب ملتهبة كل يوم، وأحيانا مرتين في اليوم، بحيث تجمعت لديها منه 3200 رسالة.

وقع ميتران أسيرا في يد الألمان، وهرب من الأسر لكي يلتقي خطيبته، لكنه وجدها قد تزوجت. فهل كان ميله الفوري إلى دانييل هروبا من ذكريات الحب المجهض؟ المهم أنه تقدم يطلب يدها، وتم الزواج في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1944، ووجدت العروس نفسها في موقع لم تتهيأ له من قبل، موقع زوجة السياسي الذي يتطلع إلى بلوغ سدة الحكم. ولأنها كانت قوية الشخصية، على الرغم من خجلها، ولديها الكثير من العناد، فقد قررت أن تنجح في موقعها الجديد، وبدأت ترسم لنفسها حياة ذات فائدة وأهدافا محددة، بحيث لا تبقى مجرد كيان مجهول يختفي وراء ظل الرئيس.

من جهته، كان ميتران ينظر إلى الزواج باعتباره علاقة تقوم على الانسجام الفكري والروابط العقلية، ولعله اختار دانييل زوجة له انطلاقا من هذه النظرة. لقد أراد سيدة يعتمد عليها، قادرة على أن تقطع معه مسيرته الصعبة، بغض النظر عن جمالها وجاذبيتها كأنثى. إنها المرأة التي تزوجها بعقله قبل قلبه، فهو قد تعرف إلى والدها وشقيقتها الكبرى قبل أن يراها، وكانت عائلتها ذات توجهات اشتراكية واضحة، ومكانة في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، لذلك شعر ميتران بأن زواجه بالابنة الصغرى لتلك العائلة، هو قضية تخدمه سياسيا قبل كل شيء.

ولعل دانييل أدركت، منذ سنوات زواجهما الأولى، أن فرانسوا لن يكون لها وحدها، وأنه ضعيف تجاه النساء، فحاولت أن تعترض في البداية، لكنها فهمت أن سياسة التجاهل هي خير ما يحفظ لها ماء وجهها، ويحمي أركان بيتها من الانهيار. لقد وقفت إلى جانبه في كل معاركه، وكانت تدافع عنه ضد خصومه، حتى تلك الفضائح الصغيرة التي تتسبب فيها مغامراته مع هذه المرأة أو تلك. أما هو، فقد عرف كيف يحتفظ بقلب زوجته ويحصل على غفرانها، إذ كان يُدخل في روعها دائما أنهما ارتبطا لهدف نضالي أسمى من كل ما عداه. ويبدو أن دانييل كانت ضعيفة جدا أمام رسالتها كمناضلة تدافع عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ولا شك أن وجودها إلى جانب الرئيس كان فرصتها لتحقيق رسالتها الإنسانية.

عندما انتخب فرانسوا ميتران رئيسا لفرنسا في ربيع 1981، لاحظ الكثيرون أن نسبة النساء قد ارتفعت في طاقم قصر الرئاسة وفي الوزارة الفرنسية. كما أن التاريخ سيسجل له أنه أول رئيس يختار سيدة ليكلفها بتشكيل الحكومة. يومها قيل إن إديت كريسون لم تصل إلى منصبها بكفاءتها، وإنما لأنها كانت إحدى عشيقات ميتران في فترة من الفترات. وابتلعت كريسون الشائعة على مضض، ومضت تحاول أن تملأ المنصب الواسع وتكون جديرة به. لكن الرئيس لم يكن يجمع المستشارات والوزيرات الجميلات فحسب، بل يعيش حياة خاصة باذخة بعيدة عن الأعين مع عدد محدود من مساعديه، وأبرزهم فرانسوا دوغروسوفر وباتريس بولا، والغريب أن هذين الصديقين اللذين كانا على علم بخفايا الحياة الخاصة كافة لميتران، غابا عن المسرح في ظروف مفاجئة. فقد انتحر الأول في مكتبه بقصر «الإليزيه» الرئاسي، في حين داهمت الثاني نوبة قلبية قضت عليه.

كان دوغروسوفر الصديق المؤتمن على العلاقة الغرامية التي جمعت بين الرئيس وآن بنغو، وهي امرأة تصغره في السن كثيرا وكانت مسؤولة في أحد المتاحف الباريسية، وقد أنجبت منه مازارين، الابنة السرية التي كان ميتران يحيطها بعناية وحب فائقين. أما دانييل، زوجته، فقد أنجبت ولدين ذكرين، ولم تنجب بنتا، لذلك جاءت مازارين لتسد هذا النقص ولتجدد شباب أبيها الذي رزق بها وهو في أواسط الخمسينات من العمر. وعلى الرغم من علم الزوجة الرسمية بوجود الابنة، فإنها لم تلتق بها إلا في المستشفى، عندما نقل الرئيس لإجراء عملية إزالة سرطان البرستاتة، وكان اللقاء لطيفا.

ولم تكن الحياة الموازية لميتران خافية على الحلقة الضيقة من الحزب، ومنهم تسربت الأنباء إلى عدد من الصحافيين والصحافيات. لكن الجميع حرص على كتمان السر كنوع من الاحترام الواجب لـ«الرجل الكبير». وعموما، فإن الفرنسيين كانوا يشعرون بأن أواصر الحياة الزوجية قد تقطعت بين رئيسهم وزوجته، منذ سنوات سبقت رحيله، وأن ما يجمعهما هو المظهر الرسمي والكثير من الود الناتج عن العشرة الطويلة. إنها الحياة الخفية والعاطفية التي لا يسمح بالإعلان عنها موقع الرجل في قمة السلطة. فلما خرج من القصر وبات على أهبة الموت، ذهب لقضاء آخر احتفال له برأس السنة في مصر، البلد الذي ربطه بتاريخه ولع عميق، وأخذ معه مازارين ووالدتها، ولم يأخذ دانييل، أم البنين.

تقول أرملة ميتران في كتابها إنهما خططا لكي يدفنا الواحد بجنب الآخر في غابة «مورفان»، شرق البلاد، لكن إحدى عائلات المنطقة اعترضت على المشروع لأنها لم تكن من مؤيدي الرئيس. وعلى الرغم من استعداد دانييل لخوض المعركة، فإن ميتران الذي أرهقه المرض فضل التراجع، ولم تجد زوجته أن المناسب مخالفته في الرأي. ولما مات، دفن في «جارناك» إلى جوار عائلته، بينما اختارت دانييل أن تدفن في مقبرة عائلتها بمنطقة «كلوني». وكانت تريد أن يتوسد جثمانها التراب، من دون صندوق، لكنها رضخت للتقاليد الفرنسية، وكتبت في وصيتها تطلب تكفينها بالبياض، ودفنها من دون بذخ.