أم كلثوم تتجلى للمصريين في المقاهي والقلوب.. وعبر الأثير

بعد 35 عاما من رحيلها

بعد خمسة وثلاثين عاما من رحيلها تظل أم كلثوم متربعة على عرش الغناء العربي («الشرق الاوسط»)
TT

خمسة وثلاثون عاما مرت على المصريين من دون أم كلثوم.. أيقنوا بأنها رحلت، وودعوها بجلال إلى مثواها، لكنهم عادوا محتضنين صوتها، رافضين موته. تلمسوا عبقها، وحافظوا على عهدهم معها بسماعها ليلا. تلمسوا بعض بقايا تاريخها الثري، وجمعوه في متحف باسمها. يتنافسون على شراء أغانيها كفرض فني، كما تفننوا في رسمها، وأقاموا لها التماثيل، واحتفظوا بمناجاتها في القلب، وفي أمسيات المقاهي.

ومثلما يقول الدكتور وليد شوشة، المسؤول عن متحف أم كلثوم بقصر المانسترلي بضاحية المنيل بالقاهرة: «لا تزال (الست) متوهجة، لا ينقطع الزوار عن المتحف في الأوقات كلها، وفي معارضنا الخارجية نضطر في أحيان كثيرة إلى مد فترة وجودها للإقبال الشديد على تنسم عبقها، سواء من خلال بعض مقتنياتها الشخصية أو لوحات الفنانين، التي ترصد أبعادا جديدة كل عام لملامحها، وسرها وأسطورتها. هذا العام كنا في البحرين والكويت، وأقبل الزوار بشكل غير مسبوق، فأطلنا المدة أياما إضافية، وما يدهش أن أغلب الحضور كانوا من أعمار صغيرة، وهو ما ينفي مقولة أن أم كلثوم لا يتعلق بها سوى العجائز».

يحلم شوشة بجمع مقتنيات إضافية لـ«ثُومة» فقد عاشت ما يتعدى سبعة عقود، وخلال تلك السنوات الطوال أطلت بحضورها على أشياء كثيرة، صور وملابس وأدوات، وهدايا، وقلائد ونياشين وجوائز، لا يزال بعضها موجودا لدى أصدقائها ومريديها.

بعد خمسة وثلاثين عاما من رحيلها، تظل «ثُومة» متربعة على عرش الغناء العربي، وفق معايير كثيرة، فمن حيث التوزيع التجاري يقول مسؤول في شركة صوت القاهرة إن ألبومات أم كلثوم ما زالت رقم واحد، وبخاصة أغانيها الشهيرة مثل: إنت عمري، ودارت الأيام، سيرة الحب، الأطلال، تشكل مع بعضها ما يقرب من 170 أغنية معروفة، فيما يجهل كثيرون أغاني كثيرة لها غنتها في مراحلها الأولى، ولم تحظ بشهرة لدى الأجيال الحالية.

ومن حيث التأثير، تأتي أغانيها كباقة ورد لمن يريد إطلالة على عالم الطرب بمعدنه الأصيل، فبسلاسة ورشاقة يعبر صوتها السماوي أسوار هذا العالم، ويتناهى بإيقاع السحر إلى مسامع الجمهور، وكأنها تطبع قبلة فنية على قلوب «السميعة».. في بيروت، تراقص كبار الساسة على كلمات إبراهيم ناجي، وأحمد رامي وأحمد شفيق كامل، وألحان بليغ حمدي والسنباطي ومحمد الموجي، ومحمد عبد الوهاب، استعادوا عبق القديم، واتحد المختلفون أمام شدو آمال ماهر.. وهي تقتفي أثر «ثُومة» في بيت الدين، توحد المتناحرون، وران الصمت على المتشاحنين.

وكأن الأمس هو اليوم والغد، فلا تزال تحتفظ «ثُومة» بوهجها وقدرتها على إخراج أكثر العقول رتابة من صرامتها. ففي حلقة خاصة على فضائية «دريم»، كانت مخصصة لعامل الكيمياء الأشهر أحمد زويل، الحاصل على نوبل، قفز فجأة مشدودا من مكانه، وهو يسمع موسيقى «إنت عمري»، نسي ما كان يتحدث فيه، ثم أردف باسما وراجيا: «هتشغَّلوا أم كلثوم»، وعندما أجابته المذيعة بأنها خلفية موسيقية لحديثه، رجاها أن تستمر.

في القاهرة، حيث صومعة الفن في الأوبرا المصرية، تحتفظ فرقتا أم كلثوم و«الموسيقى العربية» بمكانة خاصة لدى الجمهور، يحضر حفلاتهما بالمسرح الكبير ما يقرب من 2000 شخص، أعضاء الفرقتين غير معروفين للإعلام أو الجمهور، فقط أنغام الكبار، وتذكر صوت «الست» يجذب المريدين.

خلال الشهر الحالي، تستعد الفرقتان للاحتفاء بالذكرى الخامسة والثلاثين لرحيلها، بحفلين أحدهما على مسرح الجمهورية، والآخر على المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية.

في وسط القاهرة بالقرب من ميدان عرابي، تصدح «الست» من مقهى يحمل اسمها، وتعتلى صورها جدرانه. حالة الوجد ثابتة منذ عقود، وكأنها لم ترحل، يقتطع المرء ساعات من يومه الصاخب، ويدخل لإعادة شحن روحه، فيخرج كائنا آخر. في الأركان «بقايا من بقاياها»، تلهب قلبا عاشقا قديما جاء يلتمس الصبر، فتعاجله بـ«وصفولي الصبر لقيته خيال وكلام في الحب يدوب يتقال» يهرع إلى ماضيه، وهنا يصبح الصبر مستحيلا، وله حدود كما شدت في إحدى روائعها.

قد تجد على كراسي المقهى قوميا قديما يتذكرها بـ«ثوار.. ثوار»، أو متدينا يردد معها «وُلِدَ الهدى»، أو فنانا يريح روحه بمناجاتها «شمس الأصيل»، أو صبّا عاشقا يهيم معها في «رقّ الحبيب».

كان العرب يفرغون شوارعهم في الخميس الأول من كل شهر، يلتفون حول المذياع في انتظار شدوها. ارتبط صدحها بالليل، فعشق ليلها الكبار والصغار، الفقراء والأغنياء. باتت طقسا ليليا، يدخل الصفاء في أنفسهم.

يقول خالد، وهو أكاديمي شاب متخصص في دراسة الإعلام حريص على سماع «ثُومة»، في الحادية عشرة من كل ليلة عقب أثير «إذاعة الأغاني» في مصر: «ذات مرة كنت أستقل تاكسيا، في الصباح، أراد الرجل أن يكسر ملل الطريق، ففتح المذياع، جاء المؤشر على أم كلثوم وهي تغني، استعذبت الاختيار، فرد ساخرا، (مينفعش يا بيه، فيه حد ياكل لحمة الصبح).. كان محقا.. فـ(الست) مثل الطعام الدسم الشهي، لا بد أن تستعد له».

تعيد الإذاعات المصرية المزدهرة على موجة «إف إم» أغانيها القديمة ليلا، يسترجع معها المستمع تفاصيل حفلاتها القديمة، على خلفية تقديم مذيعين كبار مثل جلال معوض. في حفلاتها يلتقطون تاريخا لا ترصده صفحات الكتب، يقرأون ويمرحون ويحبون من جديد. تمردت على الإذاعة التي خصصتها الدولة لها وسميت باسمها وتخصصت فقط في بث أغانيها، وانتقل صوتها عابرا الأسوار إلى إذاعات أخرى، من الأثير إلى الفضاء إلى القلوب.. طريق لا يخطئه أبدا صوت «الست.. ثُومة»، وشعاع يخطف النفس من ضجر الحياة.