فانتازيا الموقف الإنساني تبدأ من «ربطة العنق»

في معرض محسن شعلان «نحن هنا» بالقاهرة

يحرص شعلان على تبسيط الشكل معتمدا على إيقاع الفرشاة الواضح في تكوين الخطوط وحول شعلان «رباط العنق» من وحدة مادية قائمة بذاتها إلى قيمة تشكيلية تحمل مضامين وافكارا («الشرق الأوسط»)
TT

جو من الطرافة والكوميديا ومفارقات البشر والحياة، تجسده لوحات محسن شعلان في معرضه الجديد «نحن هنا» بمركز الجزيرة للفنون بالقاهرة، يتنوع هذا الجو بين الاحتفاء بالوجه الإنساني والأنثوي كبؤرة تكثيف وزاوية التقاط خاصة للحظات التوتر والمعاناة في علاقات البشر بعضهم مع بعض، ومع العناصر والأشياء، وبين السخرية من بعض رموز الإنسان نفسه الذي تسلبه حريته، وتفقده المقدرة على الحلم والتواصل مع ذاكرته وأشواقه، في عالم تتسع فيه مساحة الخوف والاضطراب يوما بعد آخر.

يحرص شعلان على تبسيط الشكل، معتمدا على إيقاع الفرشاة الواضح في تكوين الخطوط وإكساب المساحات اللونية الصريحة طابعا دراميا منعشا، يواري خلفه مشاعره وانفعالاته، ولا يكترث كثيرا بلعبة الظلال والتدرجات اللونية، في مقابل الحرص على التناسب بين الكتلة اللينة، والفراغ المهمش العشوائي الذي ينداح في الخلفية مشكلا أحيانا صدى يشبه الذبذبة النغمية، وأحيانا يتبدى على شكل ستارة، يتماهى في ظلالها فضاء اللوحة بإيقاع المسرح، ما يخفف من دكنة ألوان الزيت الثقيلة الصماء، ويكسبها مساحة مشرقة، تتماوج فيها شرارات من البرتقالي، والأزرق، والأخضر، والأصفر الناصع، مغمورة في وسيط من البني المخفف والرمادي الخفوت. يولي شعلان طاقة التعبير جل اهتمامه على المسطح الورقي، مستندا على الخط كمقوم جمالي وأساس لإبراز جماليات التكوين، فالخط بوضوحه وصرامته يحدد مدارات واستدارات اللون، كما ينعكس بانكساراته وتعرجاته وانخطافاته على الشكل، فيكشف طبيعته الداخلية، وما ينطوي عليه من مفارقات، وتعارضات على مستوى الجسد والروح، وعلى مستوى الواقع الاجتماعي المحيط، فالخط هو محور الإيقاع، وأحيانا يلعب دور الكتلة، وتوزيع الأدوار، في طبقات اللوحة، فهو يتلوى كالثعبان في لحظات التعبير عن القلق والضجر والتوتر، وينبسط في حنو طفولي ساذج، خاصة في لحظات المرح والتعبير عن الحب والصفاء.. ويتعقد الخط، وتنطفئ ملامحه في لحظات التعبير عن التشيؤ والإحساس بالضياع، والرغبة في التخلص من الحياة.. في هذا الإطار لعب شعلان على «رباط العنق» فحوله من وحدة خطية مادية قائمة بذاتها، إلى تيمة تشكيلية حاملة لمضامين وأفكار ورموز ودلالات، تجسد فانتازيا الموقف الإنساني، بكل تشابكاته وتقاطعاته الفارقة، ونجحت وساطة «الكرافت» في تنويع أجواء الدراما في ملامح شخوص شعلان، المثقلة بتعابير تختلط فيها لحظات الحزن بالفرح، والحب بالكره، واليأس بالأمل، وكأنهما حريتان تتصارعان من أجل حرية أخرى هاربة، يحاولان الإمساك بها في تخوم اللوحة. فـ« الكرافت»، يتحول من رمز للأناقة والجمال، إلى مشنقة في إحدى اللوحات، كما يتراءى كجسر في لوحة أخرى، يلملم إيقاع المد والجزر بين رجل وامرأة في حالة عصبية، كلاهما يحاول أن يشد الآخر إليه، أو بمعنى آخر يحاول أن يتملص منه.

ويبلغ اللعب بالكرافت ذروته الفنية والدرامية حين يتحول في إحدى اللوحات إلى مظهر من مظاهر التنكر والخداع والتزييف، فنجد رجلا يرتعش خوفا خلف مانيكان أنيق لكرافت في حلة أنيقة، يتلمسه بأصابعه المرتعشة، وكأنه بصدد خوض مغامرة في مجهول، أو في مسافة مستحيلة بين هويتين، يفتقدان أي نقطة للالتقاء والدفء الإنساني الحميم، ثم يقلب شعلان المشهد نفسه من منظور التجاور مع تحوير في الدلالة في لوحة أخرى، حيث تقف أنثى عارية الصدر أمام المانيكان، واضعة يدها فوق خدها، وكأنها تندب حظها العاثر، في البحث عن شريك الحياة، وفي الدلالة نفسها يؤكد شعلان أن التضاد ليس أحد مقومات الانسجام الفني والإنساني فحسب، بل يمكنه إشاعة الرقة والإحساس بالجمال في أحيان كثيرة. هذه النزعة التعبيرية لا تبرح وجوه شعلان الأنثوية، فهو يغطيها بألوان بنية ورمادية كابية وساكنة، محيِّدا طاقة البوح الكامنة في داخلها، وكأنها سر يخص الفنان وحده، ليبقى من ثم التخمين والتأويل طاقة مفتوحة للمشاهد، لإعادة التأمل، وربما إثارة شهوة الحوار مع اللوحة نفسها.

وعلى العكس من ذلك وبنزق طفل يلامس شعلان طينته الأثيرة كفنان نشأ في ربوع الحارة الشعبية المصرية القاهرية، فيتحول إلى درويش، وهو ينحت بالحبر الشيني وجوها، وحالات إنسانية، عاش مناخاتها وتشرب ملامحها في تراث هذه البيئة، فيتحول الخط بتقاطعاته وارتعاشاته اللولبية والكاركاتيرية، إلى طاقة للاختزال والتجريد، إنه يقترح الشكل ويحتمي به، ولا يبرر أسلوب الرسم، بقدر ما يحرره من نواقص التشخيص، كما ينفتح الخط بلا حذر على فضاء الشخوص، وكأنها أيقونات للحن قديم يتصبب عرقا وحنوا.