«زايد والحلم» كما يراه عبد الحليم كركلا في بيروت

رحلة القائد الموحد حين يستطيع أن يجمع العالم

مشهد من مسرحية «زايد والحلم» (تصوير: نبيل إسماعيل)
TT

قدمت فرقة «كركلا» أول من أمس عرضها الافتتاحي الرسمي لـ«زايد والحلم» في بيروت، العمل الذي أنتجته «هيئة أبوظبي للثقافة والتراث»، ويحاول أن يقدم حياة الشيخ زايد بن سلطان ومسيرته في إطار فني استعراضي. وكانت الفرقة قد قدمت العرض في أبوظبي بمناسبة العيد الوطني السابع والثلاثين للإمارات، على أن تجوب به أكثر من بلد لاحقا، واختيرت بيروت لتكون المحطة الأولى من الجولة.

وفي الافتتاح الرسمي الذي احتشدت له في «الفوروم دو بيروت» شخصيات رسمية لبنانية، بينها رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة، وكذلك وفد إماراتي جاء ليحضر الاحتفال، قال كركلا كلمته مرحبا بالضيوف اللبنانيين والإماراتيين الذين جاءوا لاكتشاف حياة شخصية عربية تركت بصماتها ليس على الإمارات فحسب بل على قضايا عربية وإسلامية كثيرة.

وإدراكا للعبة الزمن التي يتطلبها عمل تغور تفاصيله في التاريخ تم الاشتغال على لعبة الأبعاد. ومنذ اللحظات الأولى، يدرك المشاهد أنه أمام مسرح متداخل فيه القريب والبعيد والأكثر بعدا. ولم يفت المتفرج أيضا أن الجانب السينمائي حاضر بقوة خاصة عندما دشن العرض بشريط يظهر الفرسان في الصحراء على أحصنتهم من وراء ما يشبه غلالة تفصلهم عنا في الزمن، ثم سرعان ما يبدو وكأنهم يخرجون من الشاشة ويصلون إلينا مقتحمين المسرح بأعلامهم السبعة، كرمز للإمارات التي وحدها زايد بحكمته وحنكته.

يطل الراوي (غبريال يمين) بلحيته البيضاء وقامته المهابة، مذكرا بحكماء الزمان، يحكي عن الرجل الذي «كانت لعقله الرائي عيون»، قبل أن ينقلنا مشهد جديد إلى إمارات لا تزال تبحث عن ذاتها، حيث الصحراء تمتد في خلفية المسرح، ويحتفل الجمع بولادة الطفل زايد الذي سرعان ما يصبح ولدا صغيرا يحمل الصقر ويتعلم القنص. بطبيعة الحال كل حدث هو فرصة لاستدعاء لوحة راقصة، تنهل من التراث الخليجي، وربما تميل أكثر إلى بدوية صحراوية، يمكن لها أن تنسحب على البيئات العربية بعمومها. اللجوء إلى العباءة النسائية السوداء في أكثر من لوحة، وظهور الجرار مع النساء اللواتي يعبئن الماء من البئر، كما الرقص بالرماح، كلها أدوات تستخدم لاستحضار الصحراء وأجوائها التي عاش فيها زايد الصغير ثم الشاب الذي يكبر مهموما بالنزاعات التي تفرق الإخوة حوله. أما خيمته التي يجلس فيها فتصبح ملجأ للمتنازعين الذين يطلبون الحلول ويرضون بتحكيمه. زايد المحب للشعر يظهر أيضا في مجلسه بينما يتبارى الحاضرون حوله بإلقاء أشهر أبيات المتنبي. وفي المشهد الأخير من الفصل الأول للعمل الاستعراضي، يدور حوار بين زايد والفرسان السبعة الذين يمثلون الإمارات المتفرقة يومها، ونشهد من جديد رغبة زايد القوية في تحقيق حلم الوحدة.

العرض من إعداد وإشراف عبد الحليم كركلا، ومن إخراج ابنه إيفان، فيما صممت الرقصات ابنته اليسار، وقام بتأليف الموسيقى المايسترو الإيراني محمد رضا عليغولي، الذي بات اسمه لصيقا بفرقة كركلا، لقدرته على ابتكار الموسيقات المتعددة النكهات والهويات. وربما أن أكثر ما يلفت ومنذ وقت طويل في العروض «الكركلية» هو الملابس الزاهية التي تجعل حضور الراقصين على المسرح إبهارا للعين، ومتعة للفرجة، والتي يعنى بها ويصممها المعلم عبد الحليم كركلا بنفسه.

دور زايد، الذي خصص دائما بالزي العربي الأبيض تمييزا له عن باقي الحاضرين على المسرح، يلعبه الفنان الأردني ياسر المصري، فيما تؤدي الأغنيات الخليجية الفنانة وعد برفقة الفنان الإماراتي حمد العامري.

وقد تم استيحاء الديكورات من العمران الإماراتي، حيث يظهر على يمين المسرح كما على شماله، مدخلان لمبنى تراثي عريق ببوابتين كبيرتين، يعلوهما ما يشبه البرجين، ويربط بينهما من الأعلى رأس سور مسنن للمبنى، فيما حائط السور قد اختفى كليا في الوسط وتركت تلك المساحة الفضفاضة بين البوابتين لتشكل الفسحة الكبيرة لمسرح داخله مسرح وخلفه مسرح افتراضي ثالث.

الفصل الثاني من العمل يفتتح على مبايعة وفود الإمارات السبع للقائد الموحد زايد. هذا الرجل الذي يرسم بعصاه على الأرض خطوطا، تجسد ربما ما يدور في مخيلته، ودائما يبقى المسرح بأبعاده هو اللعبة الفنية التي استأثرت بالجهد الأكبر، لإعطاء الجانب التاريخي والفانتازي حقه. الشاشة تعرض صور زايد مع كبار قادة العالم، والمسرح الخلفي الذي يتقدمها يستقبل هذه المرة الراوي بحكمته ورصانته وهو يعدد إنجازات زايد الحاكم الموحد، فيما تبقى الصحراء بطلا من أبطال العمل الرئيسيين. مقدمة المسرح متروكة لإنجازات زايد هذه المرة. فها نحن أمام ورشة بنيان، من خلال لوحة يشارك فيها عمال يراقصون ألواح الخشب، ومرة أخرى في صف مدرسي يتعلم فيه التلامذة فك الحرف، ومرة ثالثة في صف بات فيه التعليم عاليا وممهورا بالمعادلات والنظريات. ما بين الشاشة التي تشرح والصوت الذي يغني، والراقصين والراقصات الذين يستخدمون الكراسي أو الطبول وربما الكتب، لتأدية لوحاتهم، تتنوع مشاهد الفصل الثاني.

واحدة من أكثر اللوحات تعبيرا عن التراث الإماراتي «العارضة» تلك التي تقدمها فرقة إماراتية مستخدمة العصي، على أنغام خليجية. الأغاني التراثية الإماراتية تمت العودة إليها بشكل كبير، لترافق مسيرة القائد الموحد في العمل، ومن ثم الانتقال إلى عهد الشيخ خليفة بن زايد كخلف لوالده ومكمل لمسيرته.

ولعل درة المسرحية هي تلك المشاهد التي تأتي بعد إعلان أبوظبي عاصمة للثقافة، لتتغير الصور التي تعكسها الشاشة الخلفية من مشهد الرمل الصحراوي الأصفر إلى صور لأبنية متطاولة وعمران أنيق يترافق والاحتفال بخروج الإمارات من محليتها لتصير مركزا لثقافات العالم.

هذا الانتقال في الدور والهدف يفسح المجال لكركلا أن يفتح مسرحه ليستضيف فرقا كثيرة آتية بتراثها وفلكلورها وملابسها من مختلف أنحاء العالم، وهي تزيد ألوان الخشبة وهجا ولوحات الأزياء بريقا. هكذا ينفتح العرض على الثقافات، وتبدأ الفرقة الروسية عرضها الطالع من الرقص الفلكلوري المحلي بالزي التقليدي والحركة المتناغمة. ثم نرى رجال الفرقة الإسبانية الذين يضربون بكعوبهم الأرض بقوة إيقاعية تتلوهم نساء الفلامنغو ليقدموا معا لوحة مشتركة. وبعد الإسبان يدخل النجم اللبناني عاصي الحلاني ليبدأ العرض اللبناني الذي دائما ما يتفوق فيه كركلا على نفسه، ويشارك في الرقص هذه المرة، المتألق دائما، عمر كركلا وهو المؤسس الثاني للفرقة مع أخيه عبد الحليم كركلا.

لا تغادر الفرق الفلكلورية التي تقدم عروضها تباعا خشبة المسرح، وإنما تتموضع بطريقة تسمح لها بأن تشكل واحدتها خلفية جمالية للأخرى، بحيث تدعم المشهدية البصرية. تدخل الفرقة الصينية بشرائطها التي تراقص الهواء وملابسها الزاهية، ويفرض الشرق الأقصى أجواءه على المسرح. وفي نهاية الاستعراض تشارك الفرق الفلكلورية جميعها في لوحة متداخلة صاخبة بالموسيقى والألوان، وتشكل فرجة خلابة، إذ تشارك الفرق كلها في رقصات من مختلف الثقافات، لتصب في مصب واد هو إدراك غاية الجمال حين تكون سمته التثاقف.