فيلم بولانسكي بوليسي بلا حرارة.. والعراقي «ابن بابل» يستدر المشاعر

في ثالث أيام مهرجان برلين للسينما

الجدة والحفيد في «ابن بابل»
TT

الأخبار الاقتصادية تتحدث اليوم عن أن ألمانيا البلد الوحيد في منظومة الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال اقتصاده يحقق تقدما ملحوظا. في موازاة ما تتحدث حوله الصحف ووسائط الإعلام المختلفة حول هذه الناحية، هناك أنباء مؤكدة من أن إقبال الشعب الألماني على السينما ارتفع إلى معدل قياسي، حيث تم بيع أربعين مليون تذكرة سينما في العام المنصرم 2009، وكانت نسبة ارتفاع الإقبال على الأفلام الألمانية ذاتها أكثر من 27 في المائة.

هذا في حد ذاته سبب مهم من الأسباب التي تجعل مهرجان برلين نشاطا زاخرا وكبيرا، وقابلا للاستمرار من دون عثرات ولا مخاطر اقتصادية ولا ثقافية. إنه صرح صناعي تجاري يستند إلى صرح أكبر، هو العمل السينمائي في حد ذاته. على عكس مهرجاناتنا العربية، سواء تلك التي لا تملك ميزانيات مناسبة، أو تلك التي تملك ميزانيات، لكنها تبدو كما لو كانت أكثر اهتماما بتسجيل نقاط إعلامية من تحديث الوضع الثقافي والعمل السينمائي داخل الوطن. إن المهرجان الألماني، مثله في ذلك مهرجان فينسيا ومهرجانات تورنتو وكان وسندانس وطوكيو، وسواها في الغرب، لا يستند فقط إلى التاريخ العريق والرائع لكل صناعة سينمائية في ألمانيا أو إيطاليا أو فرنسا أو كندا أو اليابان، بل إلى خطة ثقافية متبلورة، وهناك من يدافع عن كياناتها الفنية والثقافية، بحيث لا يمكن التضحية بهما في مقابل تسجيل نجاحات صناعية أو تجارية سريعة، مدركا أن هذه الكيانات هي السبب الذي من أجله ترتفع قيمة العملية السينمائية بأسرها، وأن تقليد الرائج القادم من بوليوود أو هوليوود ليس المطلوب، بل الحفاظ على الهوية الثقافية والفنية هو وحده الذي يستحق هذا الجهد المتواصل كله. هناك مصادفتان لا تخلوان من الغرابة في فيلم رومان بولانسكي الجديد «الكاتب الشبح»، الذي تم عرضه ظهر يوم الجمعة أمام جمهور حاشد. الأولى أن موضوعه يتطابق مع وضع حالي أثير مؤخرا حول احتمال أن تكون المخابرات البريطانية متورطة مع المخابرات الأميركية في تنفيذ عمليات تعذيب لمواطنين بريطانيين، ولو من خلال المعرفة بها والسكوت عنها. والثانية أن بعض ما يرد فيه له علاقة بوضع المخرج بولانسكي الحالي، حيث لا يستطيع مغادرة منزله السويسري الذي يقيم فيه حاليا إقامة جبرية. «لو استطاع لجاء إلى هنا»، حسب ما قال مدير المهرجان، دياتر كوزليك، حين قابلته قبل العرض.

لكن هل كان سيفعل حقا؟ هل كان سيسمح لنفسه بمقابلة الصحافة المحتشدة ليواجه أسئلتها الضاجة حول وضعه الخاص بدلا من أي أسئلة عن الفيلم وطروحاته؟ لا أحد يدري! ربما كان المخرج يود الحضور لأجل أن يثير حملة إعلامية تتضامن معه، وتمنح القانونيين الأميركيين، الذين ينتظرون استقباله في أي يوم، فرصة التأمل في الهالة التي تحيط بها، لعلهم يفكرون مرتين أو ثلاثا قبل صدور حكم تجريمه.

مهما يكن، فإن الفيلم لا علاقة له بالمكانة التي احتلها بولانسكي في تاريخ السينما. لا تزال هناك بصمات المخرج الفنية الخاصة وحسن إخراجه فصولا معينة من الفيلم بأسلوب تشويقي جيد، لكن معظم العمل يرزح تحت ثقل الرغبة في التخلص من بصمات المخرج الذاتية، وتحويل النقاش من طرح لقضية إلى متابعة لقصة تشويقية. الحالة الخاصة تتبدى في أحد مشاهد فيلمه الجديد، حين يورد المخرج رومان بولانسكي مشهدا يشكو فيه رئيس الوزراء البريطاني المعزول آدام لانغ، بيرس بروسنان، من أنه مطلوب القبض عليه في أكثر من دولة ويوافقه محاميه، تيموثي هاتون، قائلا: «ستعرض نفسك للاعتقال في أوروبا إذا ما انتقلت بين بلدانها»، ثم يذكر له بعض الدول الآسيوية التي من الممكن له أن يلجأ إليها، والتي لا ترتبط بمعاهدات أمنية توجب تسليمه إلى السلطات التي تطالب بمحاكمته كمجرم حرب.

المرء لا يستطيع إلا أن يضحك، رابطا بين وضع هذه الشخصية الرئيسية، وبين وضع المخرج رومان بولانسكي نفسه. لكن العملية عملية مصادفة، كون الفيلم كُتب وصُور بالكامل قبل التطورات التي وجد فيها بولانسكي نفسه حبيس الزنزانة بمقتضى واحدة من تلك المعاهدات المتفق عليها.

رومان بولانسكي، الفنان الذي وضع في بعض أفلامه الكثير من آرائه الشخصية حول العالم المستنتجة من حياته الخاصة، يبتعد هنا عن معظم مساراته السابقة، مانحا مشاهديه فيلما بوليسيا بلا حرارة، يقوم على استفاضة في شرح الحيثيات، والمشي في مكانه من دون تقدم، قبل أن ينجلي في النهاية عن جهد جيد إلى حد في التنفيذ التقني، نعم هناك أستاذ ميزانسين يقف وراء الكاميرا، لكنه عادي جدا في خانتي الخلق والإبداع.

إنه عن ذلك الكاتب الذي يقبل مهمة صياغة مذكرات وضعها رئيس وزراء بريطاني متهم بالتعاون مع «سي آي إيه» الأميركي، على نحو حوله إلى تابع كامل، التهمة نفسها التي واجهها توني بلير مع اندلاع الحرب العراقية، مقابل مبلغ كبير من المال، ليكتشف أن هناك خلفيات لم يكن يعلم عنها شيئا، من بينها أن العملية التي أدت إلى مقتل الكاتب، الذي كان تصدى للمهمة ذاتها من قبل، قد تؤدي إلى مقتله أيضا. المواقف التشويقية ناجحة، لأنها مرتبطة بالمكان القصي الذي تقع فيه الأحداث، جزيرة منعزلة على الطرف الشرقي لأميركا، في موسم شتاء رمادي، وعلى أرض خالية من الآدميين. هذا التأليف للأجواء يترك في البال انطباعا إيجابيا، ويمنح بطل الفيلم، إيوان مكروغر، فرصة التحول إلى نقطة صغيرة في فضاء كبير، مما يزيد خطر مقتله من دون أن يعلم أحد به. لكن ما لا ينجح فيه الفيلم مسألتان مرتبطتان باختيارات المخرج/الكاتب بولانسكي، وهما قراره بعدم التبحر في الجانب السياسي من العمل، مما يمنع الفيلم من حاشية سميكة تجعله أعلى أهمية من مجرد قصة بوليسية تتلى، ثم إيقاع يهبط كلما حاول المخرج إثارة الاهتمام بالعلاقات القائمة بين الشخصيات.. العلاقة بين الكاتب وزوجة رئيس الوزراء، تؤديها أوليفيا ويليامز، مقحمة تماما مثل مشاعرها حيال زوجها. في أحد المشاهد نسمعها تبكي، في آخر نراها هي المسؤولة عن سقوطه في الهاوية، وهي سعيدة بذلك.

هناك بعض المكونات الفنية التي كنا نتابعها في سينما السبعينات مع أفلام كوبولا وهال آشبي وسيدني بولاك وألان ج. باكولا، في تلك السلسلة من الأفلام القائمة على «نظرية المؤامرة»، التي كانت في الواقع أكثر قوة ودهما مما تأتي به أفلام اليوم، وبما يأتي به رومان بولانسكي في فيلمه هذا على الأخص، حيث الطرح موجود على نحو جزئي، ومغيب في النصف الذي من شأنه منح الفيلم أهميته الحقيقية.

* بكائيات محمد الدراجي مستمرة مع نتائج ليست في الحسبان

* في إطار قسم البانوراما، وأمام حشد كبير من المشاهدين، قام المخرج العراقي محمد الدراجي بعرض فيلمه الروائي الثاني، وعنوانه «ابن بابل»، الذي أنجزه بتمويل من نحو سبع دول، وذلك بعد ثلاث سنوات على إنجازه فيلمه الأول «أحلام».

الأخطاء تتوالى هنا، بدءا من العنوان، حيث الهمزة تعلو حرف الألف في حين أن عليها أن تكون تحته. لا نجد أن خطأ واحدا مسموحا به في اللغة الإنجليزية المصاحبة، لكن حين يأتي الأمر إلى العربية، فعدم المعرفة يبقى سائدا، وليس هناك من يصلحها أو يشير إليها. الحكاية تبدأ بلقطة مثيرة للإعجاب، نرى فيها شخصيتين من بعيد فوق أرض قاحلة.. لا شجر، ولا ماء، ولا حتى هضاب، ولا أي نوع من الحياة. في وسطها تتحرك هاتان الشخصيتان، وحين تقترب منهما الكاميرا نتبين فيهما الكردية العجوز وحفيدها. من ذلك اللا مكان، تبدأ رحلتهما: العجوز تبحث عن ابنها إبراهيم، والد حفيدها، ذلك الصبي الذي يحمل نايا يعزف عليه من حين إلى آخر. كلاهما يبحث عنه بين المفقودين في فترة نظام الحكم السابق لصدام حسين، لكنها هي التي تقود البحث، وهي لا تتحدث العربية، بينما الصبي يفعل. والرحلة تمتد بهما إلى بغداد، ثم الناصرية، ثم مناطق بعيدة أخرى تم الكشف عن مقابر جماعية. كل ذلك ورغبة الأم لا تتزعزع أو تضعف.. تريد أن تجد ابنها حيا، وإن لم يكن فعلى الأقل رفاته. ولكنها لن تجده، كذلك لن يجد المشاهد داعيا كبيرا لقبول الفيلم على أساس أنه أكثر بكثير من استغلال حالة عاطفية. هناك الكثير من النحيب والعويل والبكاء وطقوس الندب، مع لقطات مقربة للدموع سائرة، بفعل نظرية نيوتن، إلى تحت. وهناك لقطة مخططة لنظرة معاناة، يرميها الصبي إلى الكاميرا مباشرة، كما لو كان يتهم مشاهديه بالتقاعس عما جرى من ويلات في عهد النظام السابق. لكن المفاجأة ليست في الفيلم وما يريد أن يبثه، ولا حتى في كيفية بثه، بل في الجمهور الغربي. كما حدث مع هذا الفيلم في بعض المهرجانات التي عرض فيها قبل وصوله إلى هنا، عاد فحدث هنا أيضا: استولى على قلوب الكثيرين وتعاطفهم. أعلم أن الفتاة الشابة التي كانت تجلس إلى يميني بكت في أحد المشاهد، وكذلك فعلت امرأة أخرى أمامي. وحين انتهى الفيلم.. تصفيق حاد. هل تخلى الألمان، والغربيون عموما، عن القدرة على فصل العقل عن العاطفة، فغلبت الثانية؟

الحقيقة أن الفيلم فيه حبكة آسرة، تستطيع أن تستأثر بالاهتمام، والمحكوم عليه بتهمة التسبب بقتل مئات ألوف العراقيين، صدام حسين، لا يمكن الدفاع عنه. لم يترك وراءه ما يمكن أن يشكل وضعا صحيا للنقاش. لكن مشكلة الفيلم هنا، كما كانت في فيلم المخرج السابق، تبدو مسألة فض حساب، يكاد أن يوحي بأنه شخصي، وذلك بغياب التحليل السياسي، أو ما يقترب من درجة التحليل السياسي، عن الفيلمين كليهما. الأكثر من ذلك أن المخرج استطاع الحصول على كلمة مصورة لرئيس الوزراء العراقي الحالي عرضها بعد الفيلم تبارك الفيلم، وتدعو لمتابعة الكشف عن جرائم العهد السابق. في الوقت الذي لا يمكن فيه وصف تجاوزات العهد السابق إلا بالجرائم، فإن المشكلة هي أن هذا الشريط الإضافي يحول الفيلم إلى مخلب سياسي، وبذلك يقضي على ما يجب أن يبقى استقلالية المخرج عن أي تيار أو مصلحة سياسية.

على نحو تحديدي، فإن المخرج لديه عين تتيح له قدرا مقبولا من التشكيل الفني للقطة. صور الفيلم بنفسه، وجهده في هذه الناحية محسوب. لكن في خانات العمل الأخرى، لا يوجد ما يوازي هذا الجهد. على سبيل المثال، هناك إدارة للممثلين على نحو توجيههم للقيام بكل حركة مطلوبة للمشهد: صعود، هبوط، ركض، صريخ، حركات يدين، إلخ، لكن ليس هناك إلمام مواز بالروح البشرية، التي تفرز تلك السلوكيات. لذلك، هي دائما مسطحة ومتشابهة. في مشهد مبكر، يركض الصبي نحو عشرة أمتار وراء شاحنة، ثم ينحني، ساندا يديه على ركبتيه لاهثا. هل هو مريض لا يستطيع الركض عشرة أمتار؟ لا، كل ما في الأمر أن المخرج وجد من المناسب هنا أن يطلب منه تمثيل الجهد، لا فارق إذا ما كان الواقع يتطلب ذلك أم لا. وهناك قلة حيلة تسيطر على العمل بأسره. كل حافلة صعدها الصبي وجدّته تعطلت لسبب وحيد، هو أن المخرج يريد أن يعرض لشيء آخر يقع خارج الحافلة.. دخول الصبي بعض الأطلال هنا، أو حديث عابر هناك. صحيح أن الحافلات تتعطل، خصوصا إذا ما كانت قديمة، لكن هل يجب أن تتعطل في كل مرة ولأسباب لا ناتج دراميا لها؟

يبقى في البال، خلال العرض، أن الفيلم يتعامل عاطفيا مع مأساة كبيرة. بالتالي، ونسبة إلى ما رضي به مواقف سياسية متبوعة بشريط إعلامي محض، فإن هذا من باب الاستعراض والتأثير. إما هذا، وإما أن الدراجي لا يجب أن يكتب سيناريوهاته، لعل أحدا آخر يستطيع تجاوز الصياغة الأدبية والإنشائية العاطفية السائدة، ويمنح العمل مشاهد ذات أهمية فعلية.