سكورسيزي رائع في جحيمه وفنتربيرغ يوازيه تشاؤما

فيلم «أفاتار» يؤثر في سوق الفيلم المقامة على هامش مهرجان برلين السينمائي

لقطة من «سابمارينو»
TT

تأثير فيلم «أفاتار»، الذي بلغت آخر إيراداته بليونين و214 مليون و391 ألف دولار، وصل إلى سوق الفيلم المقامة، كالعادة على الهامش الأول لمهرجان برلين السينمائي الستين الحالي. وشركات أفلام من اليابان وكوريا إلى مصر، ومن الأرجنتين إلى إسبانيا. وتأثير فيلم جيمس كاميرون لا يتبدى للزائر من خلال أفلام تم استيحاؤها من الفيلم الشهير، بل مما كانت تردده القاعة الأولى حين دخلتها مستكشفا يوم أول من أمس.

أربعة أفلام يتم تجهيزها حاليا من قبل شركات إنتاج صغيرة بأسلوب الأبعاد الثلاثة نفسه الذي أقدم عليه فيلم «أفاتار». وصغر حجمها هو الجزء الأكبر من المفاجأة، ليس لأن «أفاتار» الفيلم الحديث الأول الذي عمد إلى الأبعاد الأفقية والعمودية والعمقية، فهو ليس كذلك، بل لأن هذه الأفلام تتبع شركات إنتاجية صغيرة الحجم، على عكس كل الأفلام الهوليوودية، التي عمدت إلى هذا الحل التقني وسيلة جذب لها. بذلك، فإن هذه الشركات وأفلامها تبدأ باعتماد الوسيلة ذاتها محملة نفسها عبئا اقتصاديا كبيرا، في الوقت الذي تنقل فيه نظام الأبعاد الثلاثة من نطاق الأفلام المكلفة إلى نظام الأفلام الأرخص كلفة.

الأفلام الأربعة المزمع إنتاجها باستخدام النظام المذكور هي «متاهة صادمة»، وهو فيلم رعب ياباني الأحداث لشركة فورتيسمو، وفيلم «رقص شوارع - 3» وهو ينتمي إلى سلسلة باهتة عن راقصي الشوارع لشركة اسمها «بروتاغانيست»، وفيلم «النحل القاتل» وهو تشويقي بوليسي تؤمنه شركة «كوورنلسون»، ثم «سعادين الفضاء - 2»، وهو غالبا ما سيكون خيالا علميا مع فكاهة كما هو حال الجزء الأول، وهو من إنتاج لشركة «متروبوليس». هذه الشركات كلها يابانية، مما يضيف بعدا آخر حول انتشار أسلوب الأبعاد الثلاثة، وإيمان كثيرين بأن مستقبل السينما يكمن فيه.

حدث يوم أمس خارج نطاق السوق، تمثل في حضور ليوناردو دي كابريو العرض الليلي المقام لفيلمه الرابع تحت إدارة مارتن سكورسيزي «الجزيرة المُغلقة» أو ( (Shutter Islandالذي تقع أحداثه فعلا فوق جزيرة صغيرة، عليها سجن ومصحة نفسية وبرج منارة، التي من يدخلها لا أمل له في الخروج منها حسب رواية دنيس ليهان المشوقة. دي كابريو، المنتمي إلى أم ألمانية، وقع كثيرا من الأوتوغرافات، وسمح لكثيرين بتصويره معهم. كل شيء سار نظام العلاقة بين النجم وجمهوره الحاشد، باستثناء أن الفيلم كان أفضل مما توقعه المرء ببضع سنوات ضوئية.

مارتن سكورسيزي، هو نموذج للمخرج الفنان الذي حافظ على أفضل صلة ممكنة مع النظام الهوليوودي التجاري. أنجز ما يريد بالطريقة التي تحب بها هوليوود أن تصرف فيها أمواله: مثيرة وكبيرة، وتبعا للنوع أو ما يُعرف بـ«Genre» من اللقطة الأولى إلى الأخيرة، ومع كل لقطة بين الاثنتين، أنت في حضور مخرج كبير الشأن، ناضج التفكير، لا يزال يكتشف جديدا فيما يقوم به من دون أن يخون ماضيه، ويؤم نظام هوليوود، لكن على هواه. رواية دنيس لوهان تدور حول تحريين، دي كابريو ومارك روفالو، يصلان إلى تلك الجزيرة في أحداث تقع في مطلع الخمسينات، للتحقيق في اختفاء سجينة من داخل الزنزانة، التي كانت تعيش فيها. في الكتاب، البحث عن كيف اختفت من بين ثلاثة جدران وباب حديدي، من دون أثر يأخذ وقتا أطول، لكن سكورسيزي، وهذا ضرب من ضروب نجاح اقتباسه هنا، يوجز الحديث، منتقلا إلى تطوير بدايته صوب حالة من الهواجس المتواصلة وضروب من الألغاز التي لا أجوبة شافية عن معظمها: هل تم جر قدم التحري تيدي، دي كابريو، إلى الجزيرة لإبقائه فوقها؟ هل الملازم الذي معه هو تحر بالفعل؟ هل هو مخلص له؟ هل مديرو هذه المؤسسة أشرار يمتصون الحياة من مرضاهم، أم هذا ما يريد تيدي تصديقه، رافضا أن يكون واحدا من هؤلاء المرضى؟

المشهد الأول قصير، وهو الوحيد الذي لا يقع على أرض الجزيرة. يصل تيدي ورفيقه إلى الجزيرة، ويتم استقبالهما ويستقلان سيارة «جيب». مفتاح التشغيل يدخل مكانه، وفي الثانية التي نسمع فيها موتور السيارة ينطلق، يقطع سكورسيزي على لقطة من طائرة تتبع السيارة بلقطة «صقر»، كما يسمونها وهي اللقطة التي تبدو سابحة في الفضاء، من بعيد. تفصيل صغير تتبعه عشرات التفاصيل، التي تسهم في جعل هذا الفيلم أحد أفضل أعمال المخرج الأميركي المعروف.

في أول وصولهما يسلمان سلاحيهما، ويبدآن التحقيق، ثم هاهي العاصفة العاتية تضرب الجزيرة وخطوط المواصلات تنقطع، ومهمتهما تتعثر بوجود أطباء وشخصيات مثيرة للشبهات يقودها الدكتور كولي، بن كينغسلي، الذي يواصل إعطاء تيدي حبوب وجع رأس يعانيه التحري، غير مدرك أنها تسبب هلوسته أيضا. من دون إفساد عملية المشاهدة أمام القارئ، فإن من بعض مفاجآت الفيلم قدرة السيناريو، كتابة لاييتا كالوغريديس، والمخرج، سكورسيزي، على إبقاء كل شيء تحت أسلوب محكم حتى حين يجذب الفيلم ومشاهديه إلى سلسلة مشاهد سريالية، تعبر عن هواجس تيدي ووساوسه، مستوحاة من خلفيته، إذ يدعي أن قاتل زوجته التي أحب، هو سجين في الجزيرة نفسها، بينما تدعي الخطة المرسومة له للكشف أنه هو الذي قتلها.

ما بين التشويق البوليسي والرعب النفسي، هناك التاريخ النازي، الأجواء العاصفة، المرضى المخيفون، الصخور الضخمة التي تشرف على وديان سحيقة، العلماء الذين فقدوا عقولهم من كثرة إجهادها، وحديث عن لجنة التحقيقات المكارثية، والخطر الشيوعي الذي لم ينجم حينها إلا عن تقويض دعائم حريات التعبير لحين وجيز. إنه فيلم عن قدر محتوم. مكان لا رجعة منه، يشبه جحيما كاملا على الأرض. بالمقارنة مع أفلام سكورسيزي الأخيرة، هذا أكثر أعماله قتامة ووحشية منذ أن أنجز قبل تسعة عشر سنة «Cape Fear».

لم يقترب فيلم آخر بعد، داخل المسابقة أو خارجها، من إتقان سكورسيزي، لكن المخرج الدنماركي توماس فنتربيرغ لديه عمل مثير للإعجاب، لا يقل أهمية، ولو أنه يختلف أسلوبا ومضمونا اختلاف الليل عن النهار ثم أكثر قليلا.

فنتربيرغ، الذي كان من عماد حركة الدوغما، التي كانت حركة فعلا ليس أكثر، يعود إلى قواعد العمل الفيلمي المنفتحة على المكونات التقنية في الإضاءة والتصوير والموسيقى وعناصر الإنتاج الأخرى، التي كانت الدوغما قد رفضتها سابقا، وينجز تحت عنوان «سبمارينو» (Submarino).

عمل ينقل بحساسية إنسانية وواقعية شرائح مجتمع حديث، تحاول الوقوف على قدميها، فتنهار في كل محاولة تبعا لموروثات نفسية وبيئية تشربتها حين كانت صغيرة. ثاني فيلم حديث عن عنف الآباء وسوء التربية اللذين يؤديان إلى أولاد يشبون على ما عاشوه من طفولة صعبة، وذلك بعد فيلم «الشريط الأبيض» للألماني ميشيل هينكه، باستثناء أن الأولاد الذين كبروا هم جلادو أنفسهم وضحاياها، وليسوا في وارد نقل عدوى العنف إلى الآخرين بالضرورة كما الحال في الفيلم الآخر.

بداية نتعرف على أم مترنحة، ولديها طفل ترضعه وهي تدخن بشراهة ثم تتركه لولديها الصغيرين اللذين ينتظران خروجها من جديد، فيشربان الخمر ويدخنان ويرقصان تشبها بعالم يدركان أنه موجود على النحو ذاته بين الكبار. كل هذا وصوت الطفل يتناهى في خلفية الفيلم باكيا. حين تبزغ شمس اليوم التالي، يسود صمت مبهم، إلى أن يكتشف أحد الولدين أن الطفل ميت. من هنا سننتقل إلى نحو عشرين سنة لاحقة، ونتابع ما حل بهذين الولدين.

أحد حسنات الفيلم أنه لا يتنازل عن قيمة ما يعرضه، ولا يلون شخصياته ليقدم جانبا مقحما، يخفف من وطأة استقبالها، بل يعرضها كما هي ويعرضها برقة وتفهم. لا يمنحها العذر، ولا يحاكمها، بل يربط بين ماضيها وحاضرها بمبررات مستوحاة من طبيعة حياة لا تعرف الحلول الجاهزة، ولا يوجد في الأفق العريض أمل غير اعتيادي. أحدهما سيبقى على قيد الحياة بأثر لا يمكن محوه، والآخر سيمضي مدركا أنه أخفق في إيجاد حل لمشكلته.

تبادلت وتوماس فنتربيرغ حديثا غير طويل حول هذا الفيلم بدأ بسؤاله حول السبب الذي دفعه لاختيار هذا الموضوع.

> هل يعود إلى انتشار حجم الإدمان في المجتمع الدنماركي أم إلى رغبته في تقديم شخصيتين شدتا اهتمامه إلى الموضوع؟

- هناك أكثر من سبب. الأول، يكمن في الكتاب الذي كتبت السيناريو عنه، رواية للكاتب جوناس بنغتسن، فهي جاهزة لتصوير عالم حقيقي حاضر في مجتمعاتنا البشرية في كل مكان تقريبا. وما أعجبني في الرواية هي أن الكاتب لا يغلف هذه الشخصيات بأي عاطفة كاذبة، بل يقدمها على نحو مباشر وصريح، وإذا كنت تقول إن الفيلم أعجبك لأنه ليس يحاكم شخصياته، فهذا لأن الرواية ذاتها لا تفعل ذلك.

> إلى جانب الرواية، هل قمت بالتعرف عمليا إلى ذلك العالم التحتي الذي تصوره؟

- هو تحتي بالفعل، من حيث إنه ليس واضحا إلا لمن هم فيه، لكنه واضح المظاهر حيث هناك شوارع يتم فيها الاتجار بالمحظورات، وهناك شخصيات من كل نوع تعيش عابثة بنفسها وبالقوانين الإنسانية والاجتماعية، التي من المفترض تطبيقها. لقد قمت، بناء على ذلك، بعملية بحث عن الجانب المظلم من كوبنهاغن. الجانب الآخر من القمر الذي لا نراه، أو لا نريد أن نراه. وكان بحثي منطلقا من رغبتي في معرفة كل شيء أجهله عن هذا العالم. أحد أهم مراجعي هو صديق مدرسة لي افترقنا باكرا. أدمن الهيروين، وتعرض للموت مرات عدة قبل أن يقرر قلب حياته رأسا على عقب، والآن هو أستاذ في مدرسة، يحاول تجنيب تلامذته المصير نفسه. منه عرفت أشياء كثيرة، من بحثي هذا كونت ما احتجت إليه لوصف العالم الذي لم أكن أعرفه.

> يختلف هذا الفيلم عن أعمالك السابقة من حيث المنهج. هذا فيلم يجعلك تقدّر العناصــر التي تكونه.

- أعرف ما تقصد، لكن أضيف أنه يختلف عن معظم ما حققته في السنوات الـ15 الأخيرة مثلا، وليس عن كل ما حققته إلى الآن، لأنني في البداية أحببت السينما التي تحتوي على قواعد العمل، وفي الوقت ذاته التدخل في هذه القواعد لمنح الفيلم الجانب الخاص الذي ينتمي إليك كمخرج.