نظرة على المشاركة الصينية واليابانية في مهرجان برلين السينمائي

مسدس بثلاث فوهات وعدة جثث والرجل السلحفاة

لقطة من فيلم زانغ ييمو «امرأة.. مسدس ودكان نودلز»
TT

هناك صف طويل من المقاعد خصص لأعضاء لجنة التحكيم في الصالة الرئيسية التي يتم فيها عرض الأفلام المتسابقة. المخرج الألماني فرنر هرتزوغ هو الذي يقود الطاقم الذي يضم أيضا الممثلة الصينية يو نان، والأميركية رنيه زليغر والكاتب الصومالي نور الدين فرح والمخرجة الإيطالية فرنشيسكا كومنشيني والمنتج الإسباني جوزيه ماريا مورالين. يصلون جميعا بلا تأخير في الوقت المحدد لبدء العرض. يأخذون أماكنهم ويبدأ العرض والجميع (هم وأكثر من ألف مشاهد) في صمت تام.

ماذا يحدث لهذا الصف الطويل من المقاعد (نحو 18 كرسيا) حين لا يكون الفيلم المعروض ضمن المسابقة؟

من دون مغالاة، يعكس الجواب الفارق بين مهرجان أوروبي أو غربي بشكل عام ومهرجان عربي. الصف، بناء على إدارة المهرجان يبقى خاليا تماما. لا أحد يجلس عليه في غياب من تم تخصيصه لهم. شفرة متعارف عليها ليست بحاجة إلى شرح يتم تطبيقها على الجميع ولا يسعى أحد من المشاهدين إلى اختراقها مندفعا للجلوس فوق تلك المقاعد الشاغرة لا قبل ولا خلال العرض. لا أحد يبرر رغبته في الجلوس بأن باقي المقاعد فارغة، ولا أحد يتسلل إليها بلا عذر.. لا شيء. احترام القرار قد لا يعجب البعض لكن الجميع يطبقه بلا تردد. اقلب الصورة تجد أننا في العالم العربي لا نقيم وزنا لذلك. بجهد كبير يحاول المشرف منع الناس من الجلوس في غير أماكنهم، وكثيرا ما حضرت عروضا لم يجد فيها عضو لجنة التحكيم مقعدا يجلس عليه فيتم خلع مشاهد من مكانه مع ابتسامة تكفي لابتلاع الصالة وإجلاس عضو لجنة التحكيم فيه رغب في ذلك أو لم يرغب.

قد تكون المقارنة مجحفة لكنها تبرز إلى البال والمرء يتساءل وهو يحضر دورة ناجحة، أفلاما وتنظيما، كيف أن المسألة لا تتطلب سوى فرض النظام والدفاع عنه وإدخاله حياتنا كبشر في العالم العربي. هنا لا تسمع رنين هاتف ولا أحدا يدخل ويخرج كلما حلا له ذلك، ومن النادر ما يسمح بدخول مشاهد جاء متأخرا ولم يحدث أن علا صراخ مشاهد تعليقا على ما يدور كما لو كان نقل معه جهاز تلفزيونه واعتقد أنه لا يزال في منزله.

في الصلب تكمن مسألة ما إذا كان المهرجان (أي مهرجان في أي مكان) هو نتيجة إفراز ثقافي أو مجرد حاجة لرفع علم الثقافة. المشكلة هي أن المهرجانات كافة، الصحيحة منها والمقلدة، المنظمة وما دون، باتت مرتفعة الثمن، باهظة التكاليف. وسواء كنت تتحدث عن برلين أو فينيسيا أو كان أو لوكارنو أو دبي أو أبوظبي، فإن المدن التي تقام فيها هذه المهرجانات مكلفة، كما أن الدعم الآتي من الشركات المسهمة لم يعد وفيرا كما كان الحال عليه من قبل. وكل شيء مكلف على المهرجان نفسه بحيث لم تعد معظم المهرجانات تستطيع تحمل تكاليف دعوة الضيوف والسينمائيين باستثناء من لديهم مشاركات فعلية في المهرجان المعروض، وكثيرا ما تكون تلك الاستضافة في حدود بضعة أيام، والكثير من تلك المهرجانات التي تبدأ كبيرة تضطر إلى تصغير أحجامها تبعا لذلك. لكن هذا كله لا يوقف الإقبال من سينمائيين وإعلاميين ومشاركين مختلفين على المهرجانات الكبيرة مندفعين برغبتهم في الوقوف على آخر ما سيوفره المهرجان إليهم من أفلام ونشاطات. وبذلك يصبحون طرفا في الحركة الثقافية التي يعكسها المهرجان بجدارة.

أحد الأفلام التي تستفيد من الشاشة العريضة، وبل عليها أن تعرض فقط ضمن هذا الإطار، هو «امرأة، مسدس ودكان نودلز» للمخرج الصيني زانغ ييمو. المكان المختار لحكاية السينمائي المعروف الذي عادة ما كان يخص كان وفينيسيا بأفلامه، هو صحراء من الجبال الحمراء والبرتقالية تحيط بـ4 أو 5 بيوت معزولة يملكها وانغ (ني داهونغ) في أحداث تقع في أواخر القرن التاسع عشر: رجل ثري (بالمقارنة) خصص المكان كمطعم نودلز ويشغل أحد بيوته كمكتب، بينما يشغل بيتا آخر بعض العاملين في المكان. 4 إلى جانب زوجة المالك (يان ني). يبدأ الفيلم بتاجر سلاح إيراني مزود براقصتين شرقيتين ومدفع لا يمانع في بيعه. لكن الزوجة تشتري مسدسا له 3 فوهات تحمل 3 رصاصات. غايتها قتل زوجها الذي لا تحبه لعنفه. هناك علاقة بينها وبين الطباخ لي (شياو شينيانغ)، وفي المكان مساعدان متزوجان زاو (تشنغ يي) وتشن (ماو ماو) اللذان لم يقبضا أجرهما منذ مدة. قوات الحكومة تترك تحريا لمراقبة المكان لأن امتلاك سلاح ناري أمر غير مسموح به. ومن تتركه، واسمه زانغ (سن هونغلي) يدرك وجود تلك العلاقة وينقلها إلى الزوج الذي يستأجره لقتل زوجته وعشيقها. يقبض ثلاثة أرباع أجره لكنه لا ينفذ الجريمة، بل يعود إلى حجرة الزوج ويقتله. العشيق يعتقد أن الزوجة هي التي قتلت الزوج. الزوجة تعتقد أن العشيق هو الذي قتل الزوج. وفي سياق أحداث تتلوى باحثة عن المفاجأة هناك أكثر من قاتل وقتيل وجثة ونهاية ستترك المكان المعزول خاليا من الأحياء.

الفيلم مأخوذ، بلا سبب جوهري، من فيلم الأخوين كووَن «دم بسيط» الذي حققاه في عام 1984 ببراعة. دراما بوليسية من «الفيلم نوار الحديث» تقوم على المفاصل الرئيسية ذاتها لكن بأسلوب يحمل تعاملا أكثر جدية مع شخصياته ودرامياتها. هنا يواصل زانغ ييمو العمل بمقتضى منهج جديد تبع تلك الأفلام ذات الطروحات الجادة بأخرى تكتفي باستعراضيات ومشاهد للبصر وحده. الفيلم يسلي بلا ريب ويدفع البعض إلى الإعجاب بعدد، ولو محدود، من المشاهد المصممة ببراعة، لكن معظمه واقع في التكرار الذي يستخدم اللقطات ذاتها كتعبير عن الزمن الواحد: القمر الذي يسطع طوال الليل (بنفس الحجم)، الجياد التي تنطلق بأقصى سرعتها ووقع حوافرها يصب في أذنيك وانتقال المكيدة من هذا الخيط إلى ذاك وحتى اللقطات المخصصة للأفعال والتصرفات أو الردود عليها، حيث كل الممثلين مشتركين في أنهم يتعاملون مع قاموس فيه بضع كلمات لتصفهم، مما يخلق تنميطا سريعا وشخصيات لا بلورة لها.

تكرار في نتائج أسوأ هي من نصيب الفيلم الياباني «يرقانة الفراشة» أو «اليسروع» كما هو العنوان الأصلي «Caterpillar» إنه فيلم خاص للمخرج كوجي واكامتسو الذي أنجز 115 فيلما أو نحوها منذ عام 1963، وحقيقة أنه لم ينل عن أي منها أي جائزة رئيسية (حظي بـ5 جوائز هامشية وبجائزة من مهرجان طوكيو كأفضل فيلم في قسم «عيون يابانية» الجانبي عن فيلمه السابق «الجيش الأحمر» سنة 2007، وهو مخرج لديه موقف سياسي وطليعي يعبر عنه في مجمل أفلامه. مثل «الجيش الأحمر» فإن «يرقانة الفراشة» يستعين بوثائقيات ويبحث عن شخصيات تعاني من الوضع السياسي الذي فرض عليها خيارات قليلة. على عكس، هذا فيلم من 85 دقيقة بينما أجبرنا «الجيش الأحمر» على الجلوس 3 ساعات. لكن خير الكلام ليس ما قل ودل هنا. هذا الفيلم الجديد فيه نحو ثلث الساعة من المادة التي لا تتكرر، حوارا أو صورا، والباقي ذات الصور وذات العبارات ثم ذات المواقف تدور كما لو كانت ملصقة بدولاب سيارة تلف حول نفسها ولا تأتي بأي جديد يوسع إدراكا أو يضيف حالة جديدة فوق ما تم تسجيله من حالات.

يبدأ الفيلم بمشاهد وثائقية للحرب اليابانية - الصينية سنة 1940 ثم يدلف المخرج من تلك الوثائقيات إلى مشهد حي نرى فيه ثلة من الجنود اليابانيين يركضون وراء 3 فتيات صينيات. بطل الفيلم سيغتصب واحدة ويقتلها. مع انتهاء هذا الفصل التمهيدي ننتقل إلى قرية لا يكترث المخرج لتصويرها حتى كديكور قد يشيع بعض الراحة حين النظر إليها. ذلك الجندي عاد إلى قريته مقطوع الأطراف مثل سلحفاة بلا قوائم. مشوه الوجه. فاقد الصوت (وربما السمع) ولم يبق منه سوى البدن والرأس.. والرغبة الجنسية التي يفرضها، رغم ما هو عليه، على زوجته الصبورة التي تعمل في حقل الأرز وتطبخ وتطعم وتشرف على تنظيف زوجها وتلبية رغباته.

الزوج بات يعتبر الآن «إله الحرب». إنه أمر ساخر لكنه مؤلم معا. القرية تنظر إلى الزوجة كنموذج للتضحية لكن لا أحد، باستثناء المشاهدين، يعلم متى ستكون تضحيتها الفعلية ومعاناتها النفسية التي تعيشها. في أحد المشاهد تهوي على صدر زوجها ضربا متسائلة لم عاد من الحرب حيا. في أخرى تتظاهر أمام الناس بأنها سعيدة بالتضحية التي تقوم بها وتطلب من زوجها أن يشاركها الظهور (فوق عربة صغيرة وبلباسه العسكري) لكي تحصد إعجابا أعلى من الناس.

كل ذلك جيد ويحمل في طياته مادة إنسانية وسياسية مهمة، خصوصا حين معاينة احتمال أن يكون الجندي رمزا لليابان في الزمن الإمبراطوري والزوجة رمز للشعب الذي عانى من نظام الإمبراطور هيروهيتو الذي انتهى حين استسلمت اليابان للقوات الأميركية في صيف 1945 بعد إلقاء قنبلتين نوويتين عليها. أمر يذكره الفيلم في النهاية مع مزيد من الوثائقيات. لكن عند هذا الحد ومع ذكر عدد الضحايا اليابانيين كما سواهم في الحرب العالمية الثانية (بالملايين طبعا) تجد نفسك لا تزال تتساءل عما إذا كان من الكافي أن تأتي وجهة الفيلم اليسارية والمعادية للحرب في الدقائق الأخيرة من الفيلم لتقديره حق قدره.

كوجي واكامتسو يستخدم التفعيلة الواحدة مرات كثيرة. لديه وضع إنساني مؤلم (ومؤلم بالنظر إليه) وبضعة رموز ينتقل إليها صوتا أو صورة طوال الوقت، كتلك الـ«كلوز أبس» لمقالة تشيد بالمجند العاجز وتصفه بالبطل القومي، أو مثل تلك النياشين أو تلك الوثائقيات. أو كالعودة إلى مشهد الاغتصاب لتأكيد دوره وفعله. أو مثل تكرار الزوجة القول لنفسها أو له: «أنت لا شيء تفعله سوى الأكل والنوم، الأكل والنوم، الأكل و....». البعض قد يرى هنا ضربا من النجاح في إيصال رسالة، لكن الأمر لا يعدو حشوا لموضوع كان يجب أن يعبر عنه إما بتوسيع إطاره ليضم شخصيات وأحداثا أكثر (لا يعني ذلك فيلما كبير الحجم) أو لمعالجة فنية راقية كما الحال مع فيلم ألكسندر زوخوروف «الشمس» الذي أشبع الشاشة بخطابه حول اليابان والفترة ذاتها ولو في حدود متابعة الإمبراطور هيروهيتو في أيام حكمه الأخيرة.