تحية من المدينة التي درس فيها.. معرض استعادي لألبرتو جياكوميتي

يقيمه حاليا ولأول مرة متحف الفن والتاريخ في جنيف

عمل بعنوان «امرأة نائمة»
TT

إقامة معرض استعادي لفنان بحجم ألبرتو جياكوميتي ليس بالعمل السهل والممكن دوما، فعمل كهذا، يحتاج إلى جهد سنوات من الدراسة والتخطيط والكلفة المادية بسبب أهمية الفنان من جهة ومدى تأثيره في عالم الفن والنحت على وجه الخصوص، وتبعثر أعماله في أكثر من مكان في العالم من جهة ثانية. إذ إن كثيرا من أعمال جياكوميتي مملوكة لأشخاص وجزء من مقتنيات متاحف عالمية موزعة بين باريس ولندن ونيويورك وطوكيو وموسكو.. إلخ. فالمعرض الذي يقيمه حاليا ولأول مرة متحف الفن والتاريخ في جنيف musée Rath والمكرس حصرا لأعمال جياكوميتي، يعتبر أكبر معرض في العالم لأعمال الفنان الشهير الذي عاش في باريس طيلة حياته وانتمى إلى المدرسة السوريالية في الفن الحديث. وهو تحية من مدينة جنيف التي درس فيها ألبرتو جياكوميتي الفن قبل وصوله إلى باريس عام 1922 لينضم إلى استوديو الفنان الفرنسي أنطوان بورديل l›atelier d’Antoine Bourdelle à l’académie de la Grande Chaumière في محلة مونبرناس الشهيرة في العاصمة الفرنسية. لكنه ما لبث بعد ذلك أن رحل إلى مكان آخر برفقة أخيه دييغو جياكوميتي ليستقرا معا في العاصمة الفرنسية لفترة طويلة. عرف عن بداياته تأثره بالمدرسة التكعيبية التي كان بيكاسو في ذلك الحين أستاذها ومنظرها إلى جانب السورياليين الكبار أمثال سلفادور دالي وأندريه بروتون في الشعر. لكن جياكوميتي كان فقيرا جدا في تلك الفترة من حياته، إذ كان يسكن في دكان صغير مع أخيه يستعمله للفن في نفس الوقت، قبل أن ينتقل إلى محل في جنيف كان مملوكا لأبيه ليشعر أكثر بالراحة والاستقلالية. مرت على جياكوميتي أيام صعبة جدا قبل أن يبدأ بعرض أعماله الفنية، وهي منحوتات صغيرة وكبيرة بدأها بمجموعة أعمال من الجفصين الأبيض والرمادي قبل أن يبدأ باستخدام البرونز متأثرا بالفن الأفريقي. لكن من عرفوه وبعض أفراد عائلته أوضحوا أن جياكوميتي كان يصنع منحوتات تشبه إلى حد بعيد أفراد عائلته، مثل والده الذي كان فنانا تشكيليا ينتمي إلى المدرسة الانطباعية، وأخيه دييغو، الذي أخذ من الأب، حرفة الرسم بنفس الأسلوب القديم ودون أي تجديد. على عكس ألبرتو الذي استفاد كثيرا من الحركة التشكيلية في الثلث الأول من القرن العشرين التي كانت تشهدها باريس. عرض جياكوميتي أعماله لأول مرة في صالون تويلري في باريس عام 1927، لكنه مع الأسف لم يحقق كثيرا في هذا المعرض على المستوى المادي بل نال الكثير من مدائح النقاد في ذلك الزمن. بعدها بعدة سنوات، كان قد نحت أحد أكثر أعماله شهرة وهو «رجل وامرأة» 1928، وبعد تعرفه إلى جان ميرو وجان آرب قام بعرض أعماله في غاليري «بيار» عام 1930 وتعرف وقتذاك إلى لويس أراغون وأندريه بروتون وبعدهما إلى سلفادور دالي وأندريه ماسون لينضم بعد ذلك بفترة بسيطة جدا إلى الحركة السوريالية التي طبعت تلك المرحلة من تاريخ الأدب والفن بطابع التجديد والحداثة وكسر تأثير الكلاسيكية. اتسمت أعماله في هذه الفترة بالقلق والفراغ وعدم اليقين والعنف والرعب. فقد كانت أعماله شديدة التأثير في أندريه بروتون الذي احتفظ بتمثال صغير بعنوان «كائن غير مرئي» 1935، وتلتها أعمال كثيرة بعد أن بدأ النقاد فعليا في تقييم تجربته الفنية ومدحها وإحاطتها بالكثير من الغموض والسرية. لكن جياكوميتي الذي انتمى إلى المدرسة السوريالية عاد وقال عنها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إنها «كارثة للفن وإنها أدخلت الفن في مأزق كبير». في الخمسينات تعرف إلى جان جينيه وفي بداية الستينات حصل على الجائزة الكبرى لبينالي فينيسيا الدولي في إيطاليا. ليتوفى متأثرا بمرض السرطان في بداية عام 1966 تاركا وراءه إرثا فنيا يعبر عن هوية القرن العشرين التجريبية في الفن. تكمن أهمية هذا المعرض المقام في جنيف، بأنه تكريم لشخصية سويسرية فنية عظيمة أثرت في أجيال جرارة من الفنانين على مستوى العالم. وهو أكبر معرض يقام لجياكوميتي في تاريخ المعارض الفنية على مستوى العالم إذ يضم أكثر من مائة عمل بما فيها «الرجل الماشي» الذي بيع بأربعة وسبعين مليون يورو في لندن هذا الشهر. وأعيد بعدها للعرض مع باقي القطع الفنية الأخرى.