مهرجان برلين ينتظر الفيلم المفاجأة

وسط اختلاف النقاد حول تقييم الأفلام المشاركة

لقطة من فيلم «شهادة» و جان لوك غودار إلى «كان»
TT

يومان على نهاية المهرجان، والآراء مختلفة حول تقييم الأفلام التي عرضت على شاشات أحد أكبر مهرجانات الدنيا. معظم النقاد الذين حضروا الدورتين الماضيتين يؤكدون أن دورة هذا العام هي الأفضل، لكن نقادا آخرين، خصوصا البريطاني ديريك ألي، يعتقدون أن الأفلام في غالبيتها دون المستوى، وأن المهرجان لم يحفل بالأعمال المبهرة، بل أفضل ما عرض فيه كان من مستوى جيد فحسب.

الحقيقة تكمن في الرأيين معا، فالدورة الحالية واحدة من أفضل دورات برلين في سنواته الست الأخيرة على الأقل، والدورة الحالية لم تشهد العمل الذي يبهر، ويجعل مشاهديه يحبسون أنفاسهم، ويدفع لجنة التحكيم إلى أن تقرر من لحظة عرضه أنه ما يجب منحه جائزتها. وهاهو رئيسها، المخرج فرنر هرتزوغ، يدخل كل يوم القاعة الرئيسية ثلاث مرات لمشاهدة الأفلام، ويراقب بعيني الناقد والمخرج ورئيس اللجنة معا. يتساءل المرء: ما الذي يفكر فيه حين يرى أعمال سواه وهو المخرج الذي انتقد كثير من أفلامه وواجه ذات مرة، وفي برلين نفسها، غضب المشاهدين، وعلى حد تعبيره «تلقيت نحو مائة بصقة على وجهي»؟

بالتالي، نقول: نعم، هناك أفلام جيدة، وبل ممتازة، لكن هناك قدرا من الأعمال، التي أدى تفاوت النظر إليها وتقييمها إلى تمييع أهمية الدورة بأسرها.

مراجعة الأيام الماضية من المهرجان تفيد في اكتشاف ناحية لعلها هي التي تجعل المهرجان يبدو كما لو كان حجرا ضخما لا يتحرك إلى الأمام، على الرغم من وجود أفلام جيدة. هذه الناحية هي أن المهرجان لا يصنع إثارة خاصة من نوع تلك التي يصنعها مهرجان «كان» السينمائي مثلا، ففي ذلك المهرجان الفرنسي، نجد الزخم الكبير من نجوم السينما يوجه المناسبة صوب احتلال موقعها كحدث ساطع. البساط الأحمر الممتد تحت سماء غالبا زرقاء، في جو لطيف على الدوام. المائتا متر من الساحل المكتظ المليئة بالمقاهي والمطاعم والليالي المليئة بالحفلات الساهرة، كل ذلك يجعل من «كان» عيدا حافلا ناجحا في حد ذاته، حتى ولو كان مستوى أفلامه أقل من مستوى أفلام برلين.

برلين في المناسبة لا يستطيع أن يحظى بهذه اللمسات الآسرة: هذا العام توالى هبوط الثلج خمسة أيام، ثم أصبح السير فوق الأرصفة خطرا على الصحة العامة بسبب احتمال الانزلاق على الجليد. البساط الأحمر أصغر، وليس من مدارج عريضة يصعدها الممثلون، بل مساحة مباشرة أمام باب الصالة يدلف إليها النجوم سريعا. إلى ذلك، فإن النجوم ليسوا من أولئك الذين يقفز المصورون فوق بعضهم البعض محاولين التقاط الصور الناجحة لهم، والمؤتمرات الصحافية تحولت إلى مكان للنوم. العروض الموازية، التي تشهد أعدادا كبيرة من الأفلام والكثير منها مهم وجيد، تبقى نائية عن اهتمام الإعلام على الرغم من أن موقعها الجغرافي ليس أكثر من انتقال من رصيف إلى آخر. لذلك كله، يبدو «برلين» في حاجة إلى إعادة ترتيب يأخذ بعين الاعتبار تحريكه من الجمود الذي لا تفرضه الأفلام ولا رد الفعل عليها، بل الواجهة الجاذبة في حد ذاتها، خصوصا أن الكثيرين يتساءلون: عما إذا كان هذا المهرجان لا يزال محتفظا بهويته الثقافية، وإذا كان فما ملامحها. شاهدنا هذه المرة فيلما ألمانيا بعنوان «شهادة» للمخرج برهان قرباني، وهو مخرج أفغاني المولد، يعيش ويعمل في برلين. وفيلمه هذا حول شخصيات مسلمة تعيش واقعا جديدا عليها، في الوقت الذي يساعد فيه هذا الواقع المخرج على استعراض لا حالاتها فقط، بل حالة المجتمع والبيئة على نحو عريض.

الفيلم معالج بأسلوب عرض شخصيات مختلفة كل اثنين منها يشكلان حكاية ذات دلالة. خيوط تتمدد في اتجاه واحد، وبعضها قد يتقاطع مع البعض الآخر من دون أن يندمج فيه.

هناك مريم - مريم زاري - الفتاة المتحررة التي تنهار حين تدرك أنها حامل حديثا. الشاب الذي حملت منه يحاول استكمال العلاقة بينهما، لكن محاولته تلك تأتي بعد أن أدت الحادثة إلى مراجعتها نفسها لتجد أن ما مرت به من نزيف، هدد حياتها بعد ذلك، هو عقاب إلهي على خطيئتها. من التحرر إلى الإيمان والمغالاة فيه، علما بأن والدها هو إمام المسجد، وهو من المعتدلين في فهمه وأحكامه. الفيلم من خلال الدخول في عالمها والخروج منه، يطرح المسائل ذاتها المطروحة في «على الطريق» بالنسبة إلى الحرية الجنسية ومسألة العلاقات القائمة بين الجنسين في مجتمع غربي التكوين.

القصة الثانية تتعامل مع سامي، شاب أفريقي مسلم يعيش مع والدته في منزلهما الصغير، ويعمل في مصنع، وأحد رفاق العمل ألماني مثلي الجنس. الأفريقي يجد نفسه مشدودا إلى ذلك الألماني، الذي لا يتوانى عن إظهار اهتمامه بالإسلام والذهاب لسماع الإمام - والد البنت - في أحاديثه. لكن الاحتكاك الجنسي يقع، والشاب الأفريقي يعانيه باعتباره فعل خطيئة، ويجهد في سبيل عدم الانجراف فيه، وينجح في ذلك بعد مغريات ناتجة عن إلحاح الألماني، وما يحدثه فعل كهذا من اضطراب في الذات الداخلية ولهفة للعودة إليه.

القصة الثالثة تتمحور حول الشرطي التركي إسماعيل، الذي كان قبل سنوات أطلق النار على ابنة امرأة بوسنية، اسمها ليلى، عن طريق الخطأ فقتلها. إنه متزوج بألمانية، ولديه ولد، لكن حين يلتقي ليلى في مداهمة للمصنع ذاته الذي يعمل فيه سامي، تزوره الأفكار ومشاعر تأنيب الضمير ويتجه لعلاقة عاطفية، يدخل منها باحثا عن غفران ليلى له، وهي تفعل ذلك، ويعود بعد ذلك إلى زوجته التي لا تزال تنتظر ذلك منه.

دخول الحكايات والخروج منها - مشهد من كل حكاية لبضع دقائق، ثم مشهد من حكاية أخرى، وهكذا - سلس ولا مشكلات مهمة فيه. لكن المخرج قسم فيلمه، علاوة على ذلك، إلى فصول لا داعي لها. الفصول يمكن أن تساعد لو اختار تناول كل حكاية على حدة، لكن اختياره الصائب في تداولها على النحو الذي قام به يلغي الحاجة إلى منهج الفصول المتوالية.

متابعات

* فيلمان من تلك التي عرضت هنا ينطلقان في أسبوع واحد، لاختبار أرضيتهما الأميركية، وليتنافسا على استحواذ مركز متقدم في سباق الأفلام المعروضة في الولايات المتحدة وشمالي كندا عموما، السوقان الكندية والمكسيكية، وهما فيلم رومان بولانسكي «الكاتب الشبح»، وفيلم مارتن سكورسيزي «جزيرة مغلقة». الفيلم الأول شهد انقساما بين النقاد حياله مع فريق اعتبره عملا دون مستوى أفلام بولانسكي - كما كان رأي هذا الناقد حين تحدث عنه هنا - والثاني لا يزال من أقوى ما عُرض على الشاشة البرلينية إلى اليوم، ولو أن شيوع هذا الرأي أيضا ليس عاما.

* بضعة أفلام لم تكن جاهزة لـ«برلين» ستتجه الآن إلى مهرجان «كان» المقبل، ومنها فيلم الفرنسي جان - لوك غودار «اشتراكية»، وفيلم الروسي الأصل أوتار أسلياني «كانتراباس»، وفيلم البريطاني مايك لي - لا يزال عنوانه غير مستقر عليه - والفيلم الأميركي «سوف تقابلين غريبا طويل القامة» لوودي ألن. أيضا من المتوقع فيلم صوفيا كوبولا الجديد «في مكان ما»، وفيلم الروسي نيكيتا ميخالكوف «محترق بالشمس - الجزء الثاني».

* المنتج فيليب ماينايل يقول لـ«الشرق الأوسط»، في حديث غير مخطط له، إن واحدا من مشاريعه القريبة فيلم عن «نابليون بونابرت» في مصر. أذكره بأن المخرج الراحل يوسف شاهين صنع الفيلم قبل نحو عشرين سنة، فيرد المنتج بأنه لم يكن على علم بذلك. يضيف أن المشروع سيكلف نحو عشرة ملايين يورو، (قرابة أربعة عشر مليون دولار)، ولا يزال أمر اختيار الممثل متأرجحا: «لن أذكر أسماء، لكن هناك أكثر من ممثل أول مقترح للدور. حال عودتي - إلى باريس - عليَّ أن أدرس هذا الوضع تفصيليا». ويضيف أن هذا المشروع لا علاقة له أيضا بالمشروع الذي كان الممثل آل باتشينو قد رشح له قبل سنوات، ولم يتم إنتاجه إلى الآن.

إحدى كبرى شركات الماس العالمية هي صينية، اسمها تيسيرو، وهي منذ هذا العام واحدة من كبار راعي مهرجان برلين، الذي تخترق ميزانيته سقف العشرين مليون دولار حسب مصدر من داخله. هذا ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كان المهرجان الألماني سيكون مجبرا على تجنب أي مشكلات مع الحكومة الصينية من نوع طلب أو عرض فيلم لا ترضى عنه الحكومة، وهو دأب مهرجاني «كان» و«فانيسيا» أكثر من مرة.