«الأوديسيوم».. أول متحف ألماني للعلوم يجمع بين المعرفة والمسابقات واللهو

من محتوياته مدفع للجينات.. دراجة لبلوغ سرعة الضوء.. وروبوت للعب كرة السلة

في متحف «الأوديسيوم» كل شيء معروض لا يحظر لمسه وتجربته («الشرق الأوسط»)
TT

تعتبر كولون، على الراين، من أهم مدن ألمانيا التاريخية بحكم كاتدرائيتها الشهيرة المعروفة بالـ«دوم» والسور الروماني القديم وبوابات المدينة الثلاث. وأضافت المدينة قبل أشهر من الآن، إلى نقاط جذبها السياحي، متحف «الأوديسيوم» الذي يجمع بين المعرفة والمسابقات واللهو واجتذب 360 ألف زائر بعد 3 أشهر من افتتاحه. علما بأن مدينة كولونيا، التي أسسها الرومان قبل ميلاد المسيح بأربع سنوات كمستعمرة «كولونيا»، تضم أيضا مقرا ومصنع العطر التاريخي «ماء الكولونيا»، متحف الشوكولاته الدولي، والمتحف الروماني القديم. وتنوي المدينة الاستفادة من سمعة المدينة «العطرية» لإنشاء متحف العطور الدولي على ضفة الراين اليمنى.

ونحت خبراء المدينة اسم «الأوديسيوم» من اسم الملحمة المثيولوجية الإغريقية الشهيرة «الأوديسا» التي كتبها الشاعر العظيم هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد. ويناسب الاسم المتحف تماما لأنه يجمع العلم والمغامرة والإثارة واللهو بين قاعاته ويوفر ساعات طويلة من المتعة للزوار، الذين تشكل العوائل نسبة عالية منهم. فالمتحف عبارة عن «محطة» لتعبئة الزائر، وخصوصا الأطفال، وتلاميذ المدارس بالمعرفة وتقديم الأسرار والحقائق العلمية المعقدة من خلال الأحاجي والتجارب العملية التطبيقية التي لا تستغرق أكثر من دقائق كل مرة. هنا، في الأوديسا الأرضية على الراين، يمكن للزائر أن يسابق إنسانا آليا (روبوت) بلعبة كرة السلة، أن يسبح في الفضاء كما يفعل رواد الفضاء، أن يعيش لمدة عشر دقائق معلقا في الهواء في مرحلة انعدام الوزن، أو أن يبلغ سرعة الضوء على متن دراجة هوائية. فهو متحف ومدرسة ومختبر ومدينة ألعاب مجتمعة داخل بناية أنيقة واحدة في حي كالك من كولون. علما بأن المدينة حولت هذا الحي العمالي إلى مركز جذب سياحي من خلال بناء مجمع «راين كولونادن» (مول) وتشيط ساحة الألعاب المغلقة «الأرينا»، التي تعتبر الأكبر من نوعها في ألمانيا، وبناء الأوديسيوم. وتحول الحي خلال 10 سنوات من مصدر للكالسيوم (كالك بالألمانية تعني الكلس)، وهو سبب ملوحة الماء في كولون، إلى مصدر للعيش والتجارة. يتألف المتحف من 7 حقول علمية تمتد على مساحة 5500 متر مربع وأقيم على أرضية مصنع سابق لإنتاج المواد الكيماوية. والحقول العلمية البيئية هي: الحياة، الأرض، الفضاء، الإنسان، مدينة الأطفال، غاليريا العالم، الحياة الخارجية. وكل حقل يضم العديد من الفروع الأخرى التي تشكل الخريطة العلمية للبشر المعاصرين. وكلف المتحف 80 مختصا في مختلف الفروع للإشراف على الحقول والألعاب والتجارب، مهمتهم تقديم العون والمشورة في اللعب والتطبيق العملي. فهذا المتحف ليس كسواه من ناحية المعروضات، وفي حين تحظر المتاحف التقليدية لمس المعروضات فإن «كل شيء في الأوديسيوم معروض للمس والتجربة»، حسب تصريح أرمين فراي المسؤول العلمي عن المتحف. ويضيف «نحن نريد تعريف الطفل بقضايا العلم المعقدة من خلال المعايشة والتطبيق المباشر». وليست هناك شروح مكتوبة أو تعليمات صادرة عن ميكروفون هنا، لأن على الزائر أن يكتشف القوانين بنفسه، أن يجرب القوانين من خلال ألعاب بسيطة. وأرمين فراي، هو أستاذ العلوم في جامعة أولم (جنوب) وسبق له العمل في اللجنة العلمية لمعرض «أكسبو 2000» الذي أقيم في هانوفر في العام الذي يحمله اسم المعرض.

ومن أكثر الألعاب العلمية جذبا للأطفال هي لعبة «النفق» في حقل الإنسان. وهو عبارة عن نفق صغير تتألف أرضيته من 36 بلاطة مربعة، وتوجد في مؤخرته معادلة رياضية تتعلق بالألغام ويقع على الطفل إيجاد الحل الصحيح للمعادلة. فهي لعبة تشبه إحدى مغامرات «أنديانا جونز»، الحل الصحيح يعطي الطفل أرقام البلاطات الآمنة والبلاطات الملغومة، وهكذا يمكنه التحرك على البلاطات الآمنة وصولا إلى نهاية النفق. حذار!!! فعدد القطع الآمنة 15 فقط ومن يفشل في الحل، ويدوس على بلاطة ملغومة، ستنهار الأرض تحت أقدامه ويقع في سرداب مظلم. فاللعبة، حسب فراي، استفزاز لذكاء الطفل وقدراته، وطبيعي فإن القاعة تحتوي على معلومات عن أضرار الألغام ومخاطرها على البشر والبيئة، وخصوصا في الدول النامية.

وفي مجال الحياة يجد الزائر التركيبة الجينية الكاملة للإنسان مع مدفع صغير يسمى «مدفع الجينات». ويمكن للزائر أن يستخدم المدفع لإطلاق الحمض النووي كالقنابل على سلاسل معينة من تركيبة الأحياء الجينية، ويستطيع بذلك أن يغير التركيبة الجينية لها. هنا يمكن بمساعدة المدفع، والألوان والصور، أن يطلق الطفل الحمض النووي على تركيبة البطيخ المكور الجينية ليحوله إلى بطيخ مربع، كما فعل ذلك اليابانيون. وحسب كاترينا تزفانزغ، المكلفة بالإشراف على الألعاب، فعلى الزائر أن يستعد لسبر غور 200 لعبة علمية تتعلق بمختلف العلوم. وتحول المتحف إلى مزار للأطفال وتضعه مختلف المدارس الألمانية على برامجها التعليمية الترفيهية السنوية. كما صارت لجان المعلمين والآباء تزور المتحف في محاولة للتعرف على الفروع التي تستهوي الأطفال، والتوجهات المستقبلية لهم، والتعرف على قابليتهم عموما. وحضر بعض ممثلي الشركات الألمانية لمراقبة تلاميذ المدارس الإعدادية بحثا عن كفاءات علمية في مختلف الفروع. ويذكّر «عالم الطفل» في الأوديسيوم بمدينة الألعاب الشهيرة «فانتازيا لاند» في بلدة برول قرب كولون، على أنه يستبدل الألعاب العادية بألعاب علمية تنمي قابلية الطفل وفهمه. فهناك غابة كبيرة تحتوي مختلف أنواع النباتات والحيوانات وتستفز الأطفال بالمعرفة. منها لعبة كبيرة عبارة عن صورة لقطيع من الفيلة على الأرض وبينهم فيل صغير تائه. ويحاول الأطفال من خلال حركاتهم احتضان الفيل الصغير وإعادته إلى أمه. وأكثر معالم الطبيعة التاريخية جذبا للأطفال كان الديناصور تي- ريكس الذي يرتفع 5 أمتار عن الأرض. والحيوان مصنوع من مادة صناعية لا تتأثر بالحرارة واللمس، وصنعه علماء وفنانون يابانيون للمتحف لقاء 180 ألف يورو. وإذا كانت «فانتازيا لاند» تستخدم مركبة فضاء افتراضية «سيميلاتور» لتحريك الزائرين داخل عالم افتراضي، فإن الأوديسيوم يتيح ذلك للزائر في أرجاء الكون. هنا يستطيع الطفل معايشة التحليق في الجو بفعل انعدام الجاذبية الأرضية، واكتشاف مجرتنا والمجرات القريبة. وهناك أيضا كبسولة فضائية تتيح للزائر الخروج منها إلى الفضاء والسباحة في الفراغ. وفي «لعبة» جماعية أخرى في العالم الخارجي يستطيع الأطفال، بمساعدة المشرف، تركيب روبوت صغير وتحريكه. يتعلمون خلال ذلك كيفية شحنه بالطاقة، برمجة مهماته، إعانته على الحركة في مسار معين، ومن ثم تفكيكه مجددا لصنع موديل آخر.

وتدور الأمور في أحد المختبرات حول الحليب، فهناك كل شيء عن الحليب من البقرة إلى اللبن المبستر والبوظة. يلعب الأطفال بدمى ومكعبات مصنوعة من مركبات بروتينات الحليب، يرسمون بألوان مستمدة من الحليب ويساعدون الفلاحين بأنفسهم على إنتاج الجبنة والزبدة.

ومن يملك الشباب والقوة يستطيع استكشاف الكون والمجرات على متن دراجة هوائية مصنوعة من مواد غير ضارة بالبيئة. وكلما زاد الزائر من دوران العجلة، زادت سرعته وتوغل أكثر في الفضاء فيستطيع زيارة درب التبانة، أو بلوغ سرعة الضوء «افتراضيا» واستكشاف المجرات القريبة.

ويتفاجأ الزائر في الحقل 30 بكرة سلة هائلة يستطيع، في حالة حسابه الصحيح لوزنها والمسافة، أن يختار القوة اللازمة لقذفها في الهدف. وينافس بذلك روبوتا يلعب في ملعب كرة السلة ولا يخطئ الهدف أبدا. والهدف من اللعبة هو تعليم الطفل كيفية عمل الروبوت باعتباره «حاسوبا» لا أكثر ويمكن للإنسان الفوز عليه.

وهذا ليس شيئا لأن الأوديسيوم يقود الزائر في مغامرة علمية لا تقل عن مغامرات يوليسز وصراعه مع الساحرات والعمالقة والوحوش. فهناك أيضا وجبات أصابع البطاطا للصغار مع أسئلة حول نسبة الذرة فيها، في صلصة الطماطم، وفي الخبز. هناك المسابقات حول الفروق بين عظام البشر وعظام الحيوانات من مختلف الفصائل، وعواقب التغيرات المناخية وانهيار النظام البيئي، والعولمة ومحاسنها ومضارها...إلخ جدير بالذكر أن الفضل يعود إلى فرانك أوبنهايمر في تأسيس أول متحف للمعايشة العلمية في سان فرانسيسكو عام 1969. وأطلق أوبنهايمر على متحفه اسم «إكسبلور أتوريوم» الذي أصبح مركز جذب للسياح الأوروبيين في الولايات المتحدة، وهو ما تحاول مدينة كولون أن تكونه من خلال «الأوديسيوم».

تكلف مشروع الأوديسيوم 30 مليون يورو، أسهمت ولاية الراين الشمالي فيستفاليا بـ 12 مليونا منها، والحكومة الألمانية المركزية بـ 3 ملايين يورو، وتبرع مصرف «شباركاسة» في مدينة كولون بالمبلغ المتبقي.