قرية «العجميين» بمصر: قصة حياة وفن معجونة بجريد النخل

إرثها صناعة الأقفاص والكراسي وتشكو من عدم الاهتمام بها

أهالي قرية العجميين وصراع مع جريد النخل من أجل لقمة العيش والفن (تصوير عبد الله السويسي)
TT

هذه القرية معجونة بالسلال والأقفاص، تتراص في أزقتها، وفوق أسطح البيوت والحقول وكأنها سر من أسرار هويتها وحرفتها، والعلاقة مع المكان، واستغلال ما جادت به الطبيعة من عناصر ومقومات بسيطة. وعلى الرغم من تطور الصناعة والميكنة، فإن الطابع البدائي على هذه الحرفة لا يزال له طعمه وعبقه الخاص.

على مسافة 100 كيلومتر جنوب غربي القاهرة، وفي قلب محافظة الفيوم، التي تعد أحد أهم المشاتي السياحية، وهمزة وصل بين مدن الدلتا والصعيد، توجد قرية العجميين بمركز أبشواي، التي نالت شهرة واسعة على صعيد صناعة أقفاص الخضر والفاكهة من جريد النخل.

بمجرد أن تطأ قدمك أرض القرية، حتى تعلن عن هويتها بقوة، حيث تقابلك أتلال من أقفاص الخضر والفواكه ويفترش الأرض عمال تتنوع أعمارهم بشكل ملحوظ منكبين جميعا على أعواد الجريد. وكأنهم في حالة من الامتزاج بها، حتى إنهم في البداية رفضوا الحديث، والتوقف ولو لبضع دقائق عن العمل، ما شكل صدمة لي، خاصة أن أبناء الصعيد على وجه الخصوص مشهورون بحفاوة وحسن الضيافة.

ومع الشد والجذب تطوع ناصر عبد الرحمن ناصر (50 عاما)، صاحب ورشة لصناعة الأقفاص والكراسي من الجريد، لتفسير الموقف قائلا: «أتى إلينا من قبل الكثير من الصحافيين والإعلاميين وتحدثوا إلينا كثيرا ولم يتبدل في أوضاعنا شيء، فلماذا نهدر الوقت في الكلام؟».

بعدها وفي غضون دقائق معدودة، ذاب الجليد وعاد الوجه الصعيدي البشوش للترحيب بالضيوف وفتح أبناء القرية قلوبهم. ومع الإنصات إلى حديثهم المفعم بالقلق والإحباط، لا تملك إلا التعاطف معهم ونسيان ما كان من جفاء في البداية.

حمل جمال عبد الناصر أحمد (53 عاما)، على عاتقه مهمة شرح أوضاع أهل العجميين وسر هذا الخوف المسيطر على أبنائها على الرغم من نجاح صناعتهم قائلا: «أنا أقترب من الستين من عمري وأضطر للعمل الشاق 15 ساعة يوميا لكسب 20 جنيها فقط. ويمزقني التساؤل دائما: كيف سأكسب قوتي عند بلوغي الستين، وهي سن لا تناسب الاستمرار في عملنا الشاق».

تخصصت العجميين، التي يتجاوز إجمالي سكانها 100 ألف نسمة، يعمل 80 في المائة منهم تقريبا في الصناعة المعتمدة على جريد النخل، لصنع الأقفاص والكراسي تحديدا، ويتراوح سعر القفص، الذي يباع إلى متاجر الخضر والفواكه بمختلف محافظات مصر، ما بين 3 و4 جنيهات، بينما يتراوح سعر الكرسي، الذي يباع إلى القرى السياحية، بين 25 و30 جنيها.

يمتد هذا التفاوت أيضا بين المنتجين إلى الوقت المستغرق في الصناعة، ذلك أنه بالنسبة للعامل المحترف يستغرق صنع القفص نحو 45 دقيقة، بينما يمتد الوقت اللازم لصنع كرسي إلى نحو 6 ساعات. أما الأدوات المستخدمة فشديدة البساطة تضم سكينا وعددا من المواسير لثقب «عيدان» الجريد ومطرقة خشبية.

المعروف أن زراعة النخيل تنتشر في معظم محافظات مصر، ويقدر عدد إجمالي أشجار النخيل على مستوى البلاد بـ10 ملايين نخلة. ويصل متوسط إنتاج النخلة الواحدة من الجريد 25 جريدة في الموسم.

وتعد الفيوم، البالغ إجمالي مساحتها أكثر من 6 آلاف كيلومتر مربع، ويقدر عدد سكانها بنحو 2.5 مليون نسمة، من المحافظات المتميزة بزراعة النخيل، بل تنفرد الفيوم من بين محافظات مصر باجتماع البحيرات والأراضي الزراعية والصحراء على أراضيها، ظهرت بها البيئات الطبيعية الثلاث: الساحلية، والزراعية، والصحراوية، في تناغم فريد، مما دفع البعض لاعتبارها نموذجا مصغرا لمصر، حيث يمثل «بحر يوسف» النيل والدلتا، بينما تمثل بحيرة قارون الساحل الشمالي.

بالنسبة لأنواع الجريد المختلفة، أوضح مصطفى عبد الرحمن (30 عاما) الذي اختار عدم إكمال تعليمه ليتفرغ للعمل بمجال صناعة الأقفاص والكراسي التي يمتهنها الكثير من أفراد أسرته: «نشتري الجريد من تجار متخصصين في بيعه يشترونه من الفلاحين. هناك الكثير من أنواع الجريد أفضلها الصعيدي. ويليه جريد كرداسة والألج. أما الجريد المحلي من إنتاج الفيوم فأقلها من حيث الجودة». بالنسبة للسعر، أشار مصطفى إلى أن الـ1000 جريدة تباع مقابل 500 جنيه.

أما عن خطوات صناعة القفص، أوضح مصطفى أنها خطوات كثيرة ربما يصعب فهمها على من هم خارج المجال، تبدأ بتشذيب الجريد وصقله وتقطيعه تبعا لـ12 طريقة للتقطيع بأسماء مختلفة، مثل «دواير» و«مرايات» و«رفايد» طول وعرض و«أطواق» طول وعرض و«يود» و«عيدان». تنتهي عملية صنع القفص بتقطيع 4 «عيدان» تعمل بمثابة قوائم 4 للقفص، ثم يركب عليها باقي الهيكل، وتبدأ عملية «التقفيل» أو وضع اللمسات النهائية. في المقابل، تتسم صناعة الكراسي بقدر أكبر من التعقيد.

ومثلما الحال مع الكثير من الصناعات اليدوية والبدائية، راودت البعض فكرة تطوير الصناعة عبر الاستعانة بالآلات، لكن أبناء العجميين يؤكدون أن هذه الفكرة أخفقت تماما لعجز الميكنة عن الاضطلاع بالمهمة على النحو البارع الذي تقوم به اليد البشرية، إضافة إلى أن صور تقطيع الجريد المتنوعة والمراحل المختلفة لصنع قفص أو كرسي تستلزم الاستعانة بأكثر من آلة مختلفة.

أما عن بداية ظهور صناعة الأقفاص والكراسي في العجميين، فأعرب البعض عن اعتقادهم أن الفضل في ذلك يرجع إلى عام 1950 على يد شخص يدعى غريب محمد. حاليا، تضم القرية نحو 100 ورشة تعمل في هذا المجال.

اللافت للانتباه مشاركة الكثير من الأطفال في هذه الصناعة، ويؤكد الكثير من أصحاب الورش بالقرية أن الأطفال أصبحوا يشكلون عنصرا يتعذر الاستغناء عنه في هذه الصناعة.

من بين هؤلاء محمد علي إبراهيم (15 عاما)، في السنة الثالثة من المرحلة الإعدادية. قال محمد: «بدأت العمل في الخامسة من عمري لأساعد والدي في مصاريف الأسرة التي تضم 5 أبناء غيري، وهي نفس مهنة والدي. في الصباح أتوجه إلى المدرسة، وبعد الظهر أتوجه إلى الورشة».

المثير أن الأطفال ما بين 6 و10 سنوات يعملون بالورش من دون أجر مادي، وتقتصر استفادتهم على التعرف على المهنة واكتساب خبرة بها، خاصة أن البعض يؤكد أنه من المتعذر تعلم هذه المهنة بعد سن الـ15. ومن المعروف أن تعلم صنع الأقفاص والكراسي يستغرق من المرء نحو 4 سنوات، بينما الوصول إلى درجة عالية من الحرفية بها يستلزم ما لا يقل عن 10 أعوام، حسبما يرى عاملون بالمجال.

ودفع ارتفاع معدلات البطالة الكثير من المتعلمين من أبناء القرية إلى العمل بصناعة الأقفاص والكراسي بعد إنهاء تعليمهم، خاصة حملة الدبلوم. أما عن مشاركة المرأة في هذا العمل، فأوضح ناصر أنها نادرة للغاية، معللا ذلك بقوله: «نحن أناس محافظون ومن غير اللائق أن تختلط النساء مع العمال الرجال داخل ورش العمل، إلى جانب أنها مهنة شاقة لا تستطيع غالبية السيدات القيام بها. لذلك، يقتصر عمل النساء داخل المنازل، حيث يساعدن أزواجهن في صنع الأقفاص والكراسي وبيعها لأصحاب الورش الضخمة بالقرية ليبيعوها بدورهم إلى المحال والقرى السياحية». وتقدر أعداد السيدات اللائي يمتهن العمل بمجال صناعة الأقفاص والكراسي في القرية بأكملها بما لا يزيد على 5 سيدات.

وأوجز جمال عبد الناصر أحمد مطالب أبناء العجميين بقوله: «بناء نقابة لصانعي الأقفاص والكراسي من جريد النخل تضمن توفير المساعدات اللازمة لهم وتمنحهم شعورا بالأمان تجاه المستقبل»، وأضاف: «لا توجد جهات لمساعدتنا وتقديم قروض ميسرة لنا، ولذلك، أصبح معظمنا مدينين بمبالغ هائلة للمصارف ذات الفوائد الكبيرة، وتعرض بعضنا للسجن بسبب عجزه عن سداد الديون المتراكمة عليه».. تركت القرية، لكن أصداء هذه الصرخة لا تزال تطاردني!