«الرجل والرجل المستقيم».. مسرحية تضحك الجمهور الإيطالي طوال 88 سنة

أعمال دي فيليبو متشبعة بطعم وروائح نابولي

أحد مشاهد المسرحية («الشرق الأوسط»)
TT

يتندرون في مدينة نابولي قائلين بطريقة السجع باللهجة المحلية شبه الإيطالية: «عندنا ثلاثة أنواع من الرجال: الرجل الحقيقي ونصف الرجل (الرويجل) والرجل عديم الجدوى الذي لا رجاء منه»، لكن الممثل والكاتب الكبير إدواردو دي فيليبو (1900 - 1984) ابن نابولي البارّ ورمز مسرحها الكوميدي الرائع اختار عنوان «الرجل والرجل المستقيم» عنوانا للمسرحية التي ألّفها ومثّلها مرارا منذ سنة 1922 والتي ما زالت تُعرض في المسارح الإيطالية بانتظام منذ ذلك الوقت، وها هي تعود إلى روما على خشبة مسرح «صالة أومبرتو» بوسط العاصمة الإيطالية قرب مكتب رئاسة الوزراء في إنتاج جديد أخرجه أرماندو بولييزي لقي رواجا وشعبية هائلة لا تقلّ عما أحدثته المسرحية الضاحكة منذ ميلادها قبل 88 سنة.

تبدأ المسرحية بمجموعة من الممثلين الفاشلين المفلسين الذين يتدربون في الفندق على أداء أدوارهم في مسرح صغير في أحد المصايف البحرية، ونراهم يحاولون الاتفاق على طريقة لفظ كلمة «لا» بعدة نبرات: الأولى تنتهي بعلامة تعجب والثانية بإشارة استفهام والثالثة بنقطة أي بشكل رفض طبيعي، ويبدأ الجدل وتتعالى الأصوات على طريقة المسرحيات الهزلية المصرية ثم يتوتر الجو فيتراشقون القفشات والتهم والردح الذي يصل إلى حد الحديث عن إطلاق الريح مع صوت يُسمع! ثم تنشر الممثلات الغسيل في غرفة الفندق مثلما يفعلن بين شرفات المنازل المتقابلة في أحياء نابولي الفقيرة بينما يُهرع الممثل الأول جينارو لطهي المعجنات من نوع البوكاتيني (المعجنات العريضة) في الغرفة توفيرا لنفقات المطاعم مرددا: «يجب إضافة الكثير من الماء لغلي البوكاتيني لأن الماء القليل يصبح عكرا فيحول المعجنات إلى وحل». ويزورهم صديق محترم ينتج المسرحية التي يتدربون عليها فهو «الرجل المستقيم» الذي يكتشف أن علاقته العاطفية مع عشيقته سببت حملها فيصرّ على الاقتران بها رسميا لحفظ شرفها ويعدها بطلب يدها من أهلها قائلا بجدية: «اعذريني، أريد أن أتزوجك»، لكنه يكتشف فيما بعد حين زارها وتكلم مع رجل ظنه شقيقها أنها متزوجة بذلك الرجل الذي يمتهن الطب وكان يعالج بمحض المصادفة الممثل الأول في الفرقة المسرحية الذي صبّ ماء المعجنات المغلي على قدميه بحركة خرقاء لأن الرقة والحذاقة تعوزه، لا في التمثيل فحسب بل في مسك وعاء الطبخ المصنوع من علب فارغة ملتحمة دون مقبض، ولكي يتدارك الرجل المستقيم الورطة التي أوقع نفسه فيها يقول بارتباك وقد أصابه الاضطراب: «إذا لم أكن محتارا فسأحيّر نفسي»، ويتظاهر بالجنون كي يتمكن من الفرار، لكن الزوج يتصل بالشرطة ويطلب منهم أخذ الزائر إلى مستشفى المجانين.

تتعقد حبكة المسرحية بالكثير من سوء التفاهم والتعليقات الساخرة وسرعة الخاطر مثل مخاطبة رجال الشرطة وهم يعتقلونه: «على مهلكم.. لا تدفشوا»، وحول انحلال المجتمع الذي يتظاهر بالطهر وحسن السلوك بينما نرى الخيانات الزوجية من قِبل الطرفين حتى إن ضابط الشرطة يحاول تجربة حظه مع الزوجة المستاءة من تصرفات زوجها الطبيب بعد اكتشافها لمراسلاته الغرامية، وينتهي جميع الرجال بادعاء الجنون للإفلات من المآزق التي تلفّ رقابهم، وتُختتم المسرحية بعودة المنتج إلى عشيقته لأن زوجها الطبيب تركها وفضّل ادعاء الجنون بدوره لكي يحافظ على شرفه ويتفادى الفضيحة وثرثرة المجتمع إذا اكتشف علاقته مع عشيقته.

ثلاث ساعات من الضحك المتواصل حيث تتجلى الأحداث غير المتوقعة تدريجيا بأسلوب ذكي رائع في منتهى البساطة مستخدما التعبيرات العامية الشعبية باللغة الإيطالية وطريقة اللفظ النابوليتانية المميزة وكأننا نرى أحد المسلسلات الفكاهية السورية باللهجة الشامية.

لا شك أن دي فيليبو كان ممثلا حاذقا في الملهاة أو المأساة أحب كتابة 46 مسرحية واستمتع بتمثيلها عدا أفلامه السينمائية التي فتنت إيطاليا، وسيطر على المسرح الساخر مع زميله المبدع داريو فو الحائز على جائزة نوبل لمدة نصف قرن، كما أن اسم دي فيليبو اقترن مع الممثل الهزلي القدير توتو القادم من نابولي أيضا والممثل الراحل ألبرتو سوردي من روما الذي كان يباريهما في خفة الدم وروح الدعابة، وهناك عامل مشترك بين ثلاثتهم وهو إبراز أهمية الطعام في أعمالهم المسرحية والسينمائية مثل فيلم «البؤساء والنبلاء» لتوتو مع صوفيا لورين ودعاباته حول التهام السباغيتي والمعكرونة كما تحولت مسرحية دي فيليبو ذات الصيت الذائع «فيلومينا» إلى فيلم سينمائي مشهور «زواج على الطريقة الإيطالية»، من إخراج فيتوريو دي سيكا وبطولة صوفيا لورين ومارتشيلو ماستروياني. مسرحيات دي فيليبو متشبعة بطعم وروائح مدينة نابولي الساحلية، ففيها ظرافة كوميديا السباغيتي ولذة صلصة الطماطم الحريفة من نابولي وأغلبها يعتبر سيناريو لعدة مشاهد ولوحات كتبها دي فيليبو بنفسه ليبرهن على براعته في التمثيل.

المسرح الإيطالي يأخذنا دائما إلى فضاء غير معروف لكن أغلب المسرحيات الإيطالية لا تعرض في لندن أو نيويورك أو البلاد العربية إلا نادرا حين أحيت جودي دينش مسرحية «فيلومينا» في نيويورك سنة 1998، فالمسرح هنا يعتمد على الممثل أكثر من اعتماده على المؤلف ما عدا مسرحيات كارلو غولدوني في القرن الثامن عشر ولويجي بيرانديللو في أوائل القرن العشرين الذي ترك أثره على أسلوب وتفكير دي فيليبو. في السبعينات عُرضت في لندن مسرحية إدواردو دي فيليبو المعروفة في إيطاليا «الامتحانات لا تنتهي أبدا» ثم «السبت والأحد والاثنين» على مسرح أولد فيك بلندن وأخرجها بنجاح آنذاك فرانكو زيفيريللي وقام بالدور الرئيسي السير لورنس أوليفييه لكن الترجمة إلى الإنجليزية تفقد النكهة الفكِهة للتعبيرات الإيطالية العامية باللهجة النابوليتانية المضحكة في حد ذاتها في أثناء نطقها.

كان دي فيليبو الابن غير الشرعي لممثل كوميدي كبير من نابولي يدعى إدواردو سكاربيتا وأخذ كنيته من عائلة أمه لويزا دي فيليبو التي عملت كخياطة للأزياء المسرحية، ونشأ في جو مسرحي مع أخته وأخيه بيبينو دي فيليبو لكن الاثنين اختلفا لسنين طويلة ولم يتصالحا إلا في ثمانينات القرن الماضي قبل وفاة إدواردو ببضع سنوات حين اختير عضوا في مجلس الشيوخ مدى الحياة تقديرا لفنه.

المخرج أرماندو بولييزي قدم لنا نسخة حديثة واضحة من «الرجل والرجل المستقيم»، أما أداء فرانشسكو باولانتوني وناندو باوني في دور هذين الرجلين فكان ناجحا ومقنعا لكنه لا يرقى إلى مستوى التمثيل المدهش لإدواردو نفسه حين قام بالدور على المسرح ثم في فيلم سينمائي ما زال يباع في الأسواق بإيطاليا حتى اليوم، ومن مشاهده التي لا تُنسى مشهد الممثل الفاشل الذي يتناول بالخطأ كأس الماء الذي طلبه ضابط الشرطة في أثناء التحقيق وحين يغضب الضابط يرتجف الممثل فينصبّ الماء في قبعته التي يمسكها بيده مما يزيد حنق الضابط فيلاطفه الممثل قائلا وهو يعيد صب الماء في الكأس: «لا تقلق يمكنك الآن شرب كأس الماء فقبعتي نظيفة وأنا أغسل شعري بالشامبو كل يوم». صفق الجمهور كثيرا للفرقة المسرحية لأدائها الجيد ولأنها أعادت إلى الذاكرة عظمة دي فيليبو وروحه النقدية المرحة وإخلاصه للروح الإنسانية في جذور المسرح النابوليتاني وكأنه لم يغب عنا أكثر من ربع قرن فمسرحياته تُعرض دون انقطاع في مدن إيطاليا كافة، وهذه المسرحية بالذات عُرضت مع نفس الفرقة قبل ثلاثة أشهر في مدينة باري الجنوبية ومنذ شهرين في نابولي قبل بدء عرضها في روما. يتذكر الكثير من الجمهور الكهل الإعجاب المتبادل بين دي فيليبو وتوتو خصوصا العبارات البارزة التي تذكر دوما والتي يحفظها عن ظهر قلب من فيلم «البؤساء والأغنياء» حول ضيق حال الفقير حين يقول ساخرا متباهيا: «نحن في دارنا حين نقدم القهوة بالحليب للضيوف لا نضع فيها شيئا، لا قهوة ولا حليبا»!