أعضاء جمعية شيرلوك هولمز في فرنسا يسعون لإقامة متحف له

يزورون قبره في باريس ويتعشون في مطعم «القطار الأزرق» الذي ارتاده مرتين

تختلف المصادر في تحديد تاريخ ولادة شخصية شيرلوك هولمز لأول مرة («الشرق الأوسط»)
TT

مع بدء عرض فيلم «شيرلوك هولمز» الجديد في باريس للمخرج غي ريتشي، انتعشت أحوال جمعية فرنسية ولدت قبل عقدين من الزمن، يشترك أعضاؤها في هواية لطيفة هي متابعة أخبار هذا المحقق الأُسطوري وصديقه الدكتور واطسون. وكما هو معروف، فإن هولمز هو شخصية روائية من بنات خيال الكاتب والطبيب الاسكوتلندي السير آرثر كونان دويل، لكن الفرنسيين يتباهون بالقرابة بينهم وبين أشهر محقق خاص في العالم، على اعتبار أن جدته كانت شقيقة الرسام الفرنسي فيرنييه.

رأت الجمعية النور في حضن إحدى المكتبات القريبة من مسرح «الأوديون» في باريس، أي في قلب حي سان جيرمان، قبلة المثقفين وأصحاب البدع الفنية. ومن ينظر إلى سجل أعضاء الجمعية، بعد قرابة 19 عاما على تأسيسها، يجد أنهم خليط عجيب، بينهم الطبيب والمحامي والشرطي والمعلم والطالب الجامعي والموظف والعامل.

وتختلف المصادر في تحديد تاريخ ولادة شخصية شيرلوك هولمز لأول مرة. ففي الجمعية الفرنسية يقولون إن ذلك كان عام 1854. أما في الموسوعة الإلكترونية «ويكيبيديا» ففي عام 1887. هذا عدا عن أنه لا أحد يعرف مكان ولادته، إذ لا تشير الروايات التي كان بطلها إلى مسقط رأسه. لكن محبيه يعرفون أن أباه كان من صغار ملاك الأراضي، وأن جدته كانت فرنسية. كما يؤكدون أن له شقيقا وحيدا يدعى ميكروت، يكبره بسبع سنوات، وكان يشغل منصبا رفيعا في الحكومة ويتخذ من نادي «دوجين» في لندن مقرا له. وباستثناء هذا الأخ، لا نعرف لهولمز قريبا آخر، كما أنه لم يتزوج ولم ينجب أطفالا. وقد أقام في شارع «مونتاج» قبل لقائه بصديقه واطسون. ثم في شارع «بيكر» خلال سنوات عمله. وفي مقاطعة «ساسيكس» بعد تقاعده. ونال وسام الشرف عام 1894 بفضل اهتدائه إلى المجرم «هاريت» الملقب بسفاح طرقات باريس.

وتثير جمعية شيرلوك هولمز في باريس فضول وسائل الإعلام بسبب تعدد مشارب أعضائها، ومنهم، مثلا، موظف في شركة لاستطلاع الرأي يدعى أليكس باركوان، يخصص كل لياليه لتحسين وتطوير الموقع الإلكتروني الخاص بالجمعية على شبكة الإنترنت. وهذا الموقع هو ملتقى الكثير من المتصفحين والميدان الحر لتبادل الآراء والمعلومات والنقاش مع أعضاء جمعيات هولمز في البلدان الأُخرى. فهناك جمعيات مماثلة في بريطانيا وأميركا واليابان والدنمارك وإيطاليا. كما أن هناك، باستمرار، أخبارا جديدة واكتشافات يتناقلها الأعضاء المغرمون بهذه الشخصية الروائية.

يروي أليكس باركوان أنه قرأ قصص كونان دويل للمرة الأُولى عندما كان طالبا جامعيا يدرس الكيمياء. وكان رفاقه وأستاذته يعرفون شيرلوك هولمز لأنه، حسب الروايات، كان متخصصا في هذا العلم أيضا. وبفضل تلك القراءات تعرف على بعض أعضاء نادي هولمز الواقع في مدينة ديجون، وسط فرنسا، وأصبح عضوا في هذه الجمعية. وفي الجمعية، التقى باركوان مع متقاعد في أواسط الخمسينات من العمر يدعى برنار برونيه، الشهير بلقب «ناظر المحطة» لأنه أمضى شبابه موظفا في السكك الحديد. وبفضل ولع برونيه بالقطارات والمحطات، كتب دراسة لاقت إعجاب كل أقرانه، تتبع فيها أسفار شيرلوك هولمز في القطارات البريطانية والفرنسية، وذلك من خلال أربع روايات وست وخمسين قصة قصيرة كتبها السير كونان دويل وأسند بطولتها إلى هولمز. وجاءت تلك القصص على لسان صديقه الحميم وكاتب سيرته الدكتور جون هـ. واطسون، باستثناء قصتين رواهما هولمز بنفسه، وأخريين رويتا بضمير الغائب. ومن كثرة تعلق برونيه بهذه الشخصية الروائية فإنه يقوم برحلات سنوية، مع زوجته التي تعمل معلمة، على خطى هولمز.

يقيم «الهولمزيون» الفرنسيون، بين الحين والآخر، حفلات كبرى لكي يتعرفوا فيها على رفاقهم في الجمعيات المماثلة الموجودة في البلدان الأخرى. وهم، بهذه المناسبة، يتنكرون في ثياب القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أي في الفترة التي يفترض أن بطلهم المحبوب عاش فيها. وهم يختارون لاجتماعاتهم أماكن ذات تسميات موحية. ففي عام 2000 مثلا، اجتمعوا في المطعم التاريخي الشهير المسمى «القطار الأزرق» والواقع في محطة قطارات «ليون» في باريس. ويشرح برونيه لرفاقه أن هذا المطعم كان من الأماكن التي ارتادها شيرلوك هولمز مرتين، الأُولى عندما سافر إلى لوزان في سويسرا، والثانية عندما قصد مونبيلييه، جنوب فرنسا.

ولاكتشاف موطن بطلهم المحبوب، قام أعضاء جمعية فرنسا بزيارة إلى منطقة دارتمور في بريطانيا، بحثا عن الموقع الذي جرت فيه أحداث الرواية الشهيرة «كلب باسكرفيل». لكنهم عادوا من السفرة خائبين لأنهم لم يعثروا على المكان الموصوف في سلسلة مغامرات هولمز.. ومع هذا كانوا سعداء إذ أمضوا أوقاتا طيبة هناك. ومن المواقع التي تسحر جموع «الهولمزيين»، أيضا، قرية ميرنجين في سويسرا، حيث تقع شلالات «رايشنباخ» التي سقط هولمز فيها سقطة كادت تودي بحياته. وينظم عشاقه، من مختلف الجنسيات، زيارات دورية إلى هذا المكان، ويقوم بعضهم بإعادة تمثيل مشهد السقوط، وهم يرتدون ملابس ذلك العصر. وهناك رحلات أُخرى يبتكرها المعجبون بتلك الشخصية الروائية، مثل زيارة مقبرة «بير لاشيز» في باريس، حيث رفات الفنانين وكبار الكتاب والشعراء. وفي هذا المكان قبر من رخام غامق حفر عليه الحرفان الأولان من اسم شيرلوك هولمز.

هل هو قبره؟ لا أحد يعرف الحقيقة من الوهم. إذ كيف يمكن لشخصية روائية أن تنتقل من آفاق الخيال إلى أرض الواقع، وأن تعيش وتموت ويكون لها قبر بين الأموات؟

عشاقه لا يحبون هذا النوع من الأسئلة المنطقية، بل بلغ بهم الأمر أنهم ذهبوا إلى سجل أوسمة الشرف الفرنسية وبحثوا عن اسمه باعتباره نال وساما بعد توصله إلى إلقاء القبض على سفاح باريس. وبعد التقصي زعموا أنهم وجدوا أن شخصا يدعى «ش. هولمز» نال وساما فرنسيا، بالفعل، أواخر القرن التاسع عشر! إن محبي المحقق البريطاني الأشهر لا يكفون عن البحث والاستفسار. وقد قام أحدهم، ويدعى جان بيير كانيا، بجولة حول العالم للالتقاء بعشاق هولمز في البلاد الأُخرى. وزار الولايات المتحدة وكندا واليابان وبريطانيا وسويسرا، وعاد برسوم مدهشة جرت إعادة طباعتها في باريس مع نصوص كتبتها زوجة كانيا، كريستينا. وفي الماضي، كان أنصار هولمز في فرنسا يشعرون بالقلق لأن الطبعات الفرنسية لمغامرات هذه الشخصية التي اشتهرت بمهارتها الشديدة في استخدام المنطق والمراقبة لحل القضايا، استندت إلى ترجمات تجارية وغير دقيقة. أما الآن، فقد قامت منشورات «أمنيبوس» بالاتفاق مع مترجم قدير لنقل الروايات، في طبعات جديدة، بالاستناد إلى طبعة أُكسفورد الإنجليزية الرفيعة.

ويعترف كانيا، الذي زار جمعيات كثيرة، بأن جمعية هولمز البريطانية هي الأكثر شرعية وأناقة. أما تلك التي تستحوذ على الشهرة وتبعث على الحسد فهي الجمعية الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية، ومن الصعب جدا الانتساب إليها، إذ ليس بين أعضائها سوى ثلاثة فرنسيين. وهذا الانتساب يتيح لهم حضور حفل الغداء السنوي الذي يقام في نيويورك في السادس من يناير (كانون الثاني) من كل عام، وهو اليوم المفترض لولادة شيرلوك هولمز. وطبعا، لا داعي للقول إن هؤلاء يسافرون إلى هناك على حسابهم الخاص، لكن من يحب لا يفكر في النفقات. لقد اكتشف كل واحد منهم مغامرات هذا المحقق الانجليزي منذ أن كان طفلا. ويذكر برنار أُودان، الذي يعمل صحافيا وناشرا سابقا، أنه تعرف على هولمز من خلال والده الذي كان من عشاقه أيضا. ويضيف «في مراهقتي، ولتقوية لغتي الإنجليزية، فإن أبي كان يطلب مني في إجازة الصيف أن أترجم قصص كونان دويل إلى الفرنسية». ويحب أُودان الجو السحري لنشاطات الجمعية في فرنسا، إذ إن أعضاءها يدورون في الفراغ، لكنهم سعداء ولا يتعبون من اقتفاء آثار شخصية خيالية لم تلمس قدماها الأرض، ومع هذا يتعاملون معها وكأنها فرد يعيش ويتنفس بينهم. وهم يقولون لك إن الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، الذي كان عضوا فعالا في جمعية نيويورك، حاول أن يثبت أن هولمز كان أميركيا.

آخر مشاريع الجمعية إصدار مجموعة من البطاقات التي تتضمن معلومات تفصيلية عن عالم بطلهم المحبوب. ومنهم من يحاول كتابة قصص وروايات يستعيد فيها الشخصية. ويحلم تييري سان جوانيس، رئيس جمعية فرنسا، بإقامة متحف في باريس يشبه ذاك الموجود في لندن.