في أسبوعها لموضة الخريف والشتاء.. باريس تستجمع قواها لخض التابوهات وتكسير المألوف

تحرر «ديور» وقوة «لانفان» مقابل ازدواجية ويستوود

TT

استغل جون غاليانو، مصمم دار «ديور»، بداية انقشاع الأزمة المالية وخروج بيوت الأزياء منها في الخروج عن جلباب المؤسس، كريستيان ديور، وقدم تشكيلة تعكس حالة التفاؤل السائدة في باريس بانطلاقها وألوانها المنعشة التي غاب فيها الأسود. تشكيلة تتنفس أجواء الدار الفرنسية العريقة لكن بلمساته الخاصة، على عكس ما قدمه في المواسم الماضية، حيث كان يعود إلى الأرشيف ليغرف منه ويعيد صياغة «ذي نيو لوك» بشكل أو بآخر. تجدر الإشارة إلى أن «ذي نيو لوك» هو المظهر الذي أبدعه كريستيان ديور في الأربعينات وسجل به خروج العالم من تبعات الحرب العالمية الثانية وما حملته من تقشف. يوم الجمعة الماضي، اختفى الخصر المحدد الذي يتسع ليحضن تنورة واسعة تقريبا. حتى في الحالات التي حضر فيها، فهو لم يذكر بالمؤسس نظرا لنعومة المظهر، مما يعطي شعورا بأن المصمم استجمع كل قواه وخياله ليثبت أن التغيير مطلوب بين الفينة والأخرى، والخروج عن المعتاد قد يأتي بنتيجة. ويا لها من نتيجة، فقد كانت جد منعشة بكل تفاصيلها، امتطى فيها صهوة جواده مثل فارس مغوار، وتوجه إلى مسقط رأسه، بريطانيا، ليدخلنا قصورها وما يجري في دهاليزها وحدائقها. فالقصة التي بنى عليها غاليانو تشكيلته مستوحاة من الإيرل روشستر، الذي جسده النجم جوني ديب في فيلم «ذي ليبرتين» عام 2004، وطبعا علاقاته النسائية المتعددة. وهكذا، وفي خيمة نصبت في حدائق التويلرز، بدأ العرض على خلفية صوت الرعد وصهيل الجياد، بمعطف من الجلد جد مبتكر من الخلف بطياته المتعددة، وبنطلون مستوحى من بنطلونات الفروسية، وقميص شفاف جدا. مظهر يذكر بتشكيلته الخاصة بالـ«هوت كوتير» التي قدمها في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، مع فرق كبير، وهو أنها هذه المرة أكثر رومانسية وشاعرية. فهو لم يركب الموجة التي سادت كل أسابيع الموضة، ولم يكتف بالتلاعب على مفهومي الأنوثة والرجولة من خلال التايورات أو القطع المفصلة بصرامة والأقمشة الخشنة التي ارتبطت بالبذلات الرجالية من قبل، بل ارتأى أن يلعب على هذا المفهوم من منطلق القوة والنعومة بداخل الأنثى نفسها. أدواته كانت بسيطة وهي اللعب على الأقمشة القوية مثل الجلود والتويد مقابل الأقمشة الشفافة، وبالتالي جاءت النتيجة إطلالة لا تغطي الجسم من العنق إلى أخمص الرأس، بل تكشف بعض الأجزاء من الجسم إلى حد لا يترك مجالا للخيال، بشكل يتضمن الكثير من الإغراء. فهي مستوحاة من خزانة امرأة ارستقراطية تعيش حالة من المجون أو اللامبالاة، تقضي وقتها نهارا تمارس هواياتها المفضلة: الفروسية أو في الصالونات الأدبية الخاصة بالبوهيميين، ومساء تعانق أنوثتها وتعبر عنها بحرية تزيدها سحرا. الأقمشة التي استعملها كانت تحمل بصمات الدار التي تتوق دائما إلى تدليل المرأة بكل ما هو مترف. فقد كان هناك التويد، خصوصا في القبعات، كما كان هناك الكثير من الجلد الناعم والشيفون والحرير والتطريزات والترصيعات. خلاصة الأمر أنها «هوت كوتير» بجرعة خفيفة جدا على العين والقلب والجيب أيضا بالمقارنة مع تلك التي قدمها في شهر يناير الماضي. بالنسبة للتصميمات، فإلى جانب الفساتين الناعمة التي تغلب عليها نقوشات الورود والكشاكش والبنطلونات الواسعة التي تضيق عند الساق والقمصان الشفافة، فإن المعاطف برزت في هذه التشكيلة بشكل قوي، بانسيابيتها وطياتها وتفاصيلها المزينة أحيانا بالفرو. وبرز بالأخص معطف يبدو أنه مشبوك عند الخصر بطريقة تتيح الفرصة لارتدائه كجاكيت قصير أو كمعطف طويل، وهي ازدواجية لعب عليها الكثير من المصممين أيضا، وكأنهم يريدون أن يبرروا سعر القطعة الواحدة، وأيضا في محاولة لإيجاد طريقة عملية لمحاربة الأزمة المالية. لكن الأهم في هذه الباقة من المعاطف أنها توحي بالدفء، خصوصا أن ما كان تحتها شفاف ولا يقي من لسع البرد في الخريف والشتاء، وهما الموسمان اللذان تتوجه لهما هذه التشكيلة. للمرأة التي لا تتحمل لسع البرد، أو فقط لا تريد كشف المستور، فإنه لم يبخل عليها بقطع من الصوف، مزج فيها الكشمير مع الحرير وزينها بأشرطة وورود.

المرأة المتحررة والقوية ظهرت أيضا في عرض «لانفان»ن لكن التحرر والقوة هنا كان لهما طعم مختلف. فبينما امرأة «ديور» كانت متحررة دون قيد أو رقيب تعيش حياتها بالعرض والطول بشكل بوهيمي، فإنها عند «لانفان» متحررة لكن جادة في الوقت ذاته، تريد أن تفرض قوتها في الحياة وفي ميادين اقتصرت على الرجل في الماضي، من دون أن تتنازل عن أنوثتها. وأيضا، مثل غاليانو، أكد مصمم الدار ألبير إلبيز أنه مايسترو يفهم المرأة، يعرف ماذا تريد وكيف تريده. على الأقل، فقد عبر عن رأي واضح من خلال هذه التشكيلة، بأنها إذا لم تستطع أن تحكم العالم وتصل إلى مبتغاها، فهي على الأقل تستطيع أن تتحكم في خزانتها وما يدخل إليها. منذ بداية العرض كانت هناك إيحاءات تلعب على القوة والنعومة، لكنه تلاعب تجلى في التصميم وليس فقط في مزج الأقمشة المتناقضة. فالعارضة الأولى، مثلا، ظهرت بمعطف بلون الكريم محدد على الجسم يظهره رشيقا وناعما. نعومته هذه تتناقض بشكل كبير مع أكمامه الضخمة التي تظهر الذراعين وكأنهما أعرض من الجسم كله، ومع ذلك بدا المظهر مقبولا، بل وأنيقا. ثم اتبعه بمجموعة لا تقل جرأة في التصميم، ركز فيها على أجزاء معينة من كل قطعة. ففي المعاطف ركز على الأكمام التي جاء فيها خط الكتف نازلا إلى نصف الذراع تقريبا. وعوض أن تبدو العارضة فيها كما لو أنها تلبس معطفا أكبر منها، فإنها بدت عصرية، واثقة، ومستعدة للجديد. أما في الفساتين، وبالإضافة إلى الطيات التي يتقنها جيدا، فقد كان لافتا استعماله لسحابات طويلة تبدو وكأنها إكسسوارات المراد منها الترصيع والتزيين تتجاوز وظيفتها العملية، خصوصا أنها جاءت أحيانا على طول الفستان. وتكررت هذه السحابات أيضا في بعض التنورات أحيانا من الخلف وأحيانا من الجانب. على العكس من جون غاليانو، فضل إلبيز أن يغطي الجسم قدر الإمكان إلى حد بدت فيه بعض القطع صارمة. ولم يخفف من صرامتها استعماله السخي للفرو وأحجار كريستال شواروفسكي فيها. وما زاد من صرامتها أن الألوان الغالبة كانت داكنة مع أغلبية ساحقة للأسود، وكأن هذا المصمم يعرف أن المرأة تحب الألوان لهذا قدم لها قليلا من البرقوقي والأخضر الزيتوني والأزرق، لكنه متأكد أن ما تشتريه فعلا هو الأسود. ومع ذلك فإن الصعب على أي امرأة مهما كانت تميل إلى الأسود أن تقاوم فستانا من الشيفون بلون البشرة، ظهر فجأة من بين القتامة، يلتف حول الجسم بحنان ويتماهى مع كل خطوة أو حركة. فهو خفيف جدا يكاد يتطاير مع أي نسمة هواء، وفي الوقت ذاته يلتف بطريقة رائعة على الجسم تحميه من عيون الفضوليين. هوس ألبير إلبيز بالأسود تجلى أيضا في «باروكات» الشعر الناعمة التي استعملها وظهرت فيها العارضات وكأنهن مستنسخات. بعد العرض شرح إلبيز الفكرة بقوله «أرى الكثير من النساء يتوجهن لجراح التجميل نفسه للحصول على الشفاه نفسها، ويضعن ماكياج العيون نفسه، والشعر نفسه.. كل ما أردته هو أن أظهر للناس كيف يمكن أن نعيش عندما يتشابه الكل».

والحقيقة أن هذه الباروكات بدت رائعة مع معاطف من الفرو ضخمة، بدت وكأنها مصنوعة من ريش النعام بالنظر إلى نعومتها وخفتها، وليس ببعيد أن تنافسها في حجم الإقبال عليها. تشكيلته على العموم كانت ستنال رضا أنا وينتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» الأميركية، التي لم تتمكن من حضور العرض. لأول مرة منذ سنوات غادرت باريس قبل انتهاء الأسبوع، وإن حرصت على حضور عرض «ديور» قبل أن تتوجه إلى لوس أنجليس لحضور حفل توزيع جوائز الأوسكار اليوم مساء.

المخضرمة البريطانية، فيفيان ويستوود، التي تعرض خطها «غولد» هنا في باريس، لعبت هي الأخرى على قوة الأكتاف لكن برومانسية أقرب إلى الأساطير من خلال احتفالها بالأمير الفارس. فقد كتبت على ورقة تشرح أن قصص الأساطير يمكن أن تعلمنا الكثير وتغني حياتنا، ويمكن أيضا أن تعلم الجيل الصاعد من الأطفال الفرق بين الخير والشر ومعنى البطولة الحقيقية. ترجمة هذا الرأي تجلت في معاطف ضخمة وفساتين مستوحاة من أميرات الغابة بتيجانهن الورقية الملونة والبنطلونات الضيقة التي تستحضر أزياء أمراء قصص الأطفال. بيد أن جرأة الألوان وضخامة التصميمات بدت متواضعة بالمقارنة بدرامية الماكياج الذي جعل الأميرات يبدون وكأنهن فرسان أو أمراء. فتكاثف أحمر الشفاه الصارخ الذي تم تحديده بقلم أسود سميك، ومنحهن شوارب رقيقة، مع ماكياج العيون الدرامي شكل صدمة يصعب التأقلم معها بسرعة، ولولا شرحها المسبق لبدا الأمر شاذا. أما الطريف فهو أن فيفيان ويستوود، التي لم تصرح بأن قصدها كان اللعب على الازدواجية بين الرجولة والأنوثة، بقدر ما كانت تريد إدخال بعض الرومانسية والقيم إلى حياتنا، كانت أكثر من جسد هذا المفهوم، لأن مظهر العارضات كان يذكر بفيلم «فيكتور فيكتوريا»، الفيلم الذي قامت ببطولته جولي أندروز في عام 1982 وكان دراسة مثيرة لهذه الازدواجية.