«حياة بطل» تخطف الأبصار من «المقامر»

بابانو قائد الأوركسترا يتنقل بين روما ولندن ويسحر العالم بعصاه

أنطونيو بابانو يقود الأوركسترا في دار الأوبرا الملكية في لندن
TT

زرنا بروكسل عاصمة بلجيكا مع وفد فني إيطالي قبل عشر سنوات، وكانت أروع ذكرى في تلك الليلة الموسيقية في «مسرح العملة» (مبنى صك العملة الذي تحول إلى دار للأوبرا)، هي اكتشاف قائد موهوب للأوركسترا يدعى أنطونيو بابانو، أصر البعض على أنه إيطالي، لكن الآخرين قالوا إنه بريطاني ولد في لندن عام 1959 من أصل إيطالي، ثم فهمنا فيما بعد أنه أميركي عاش طويلا في الولايات المتحدة، وأتم دراسته فيها، أولا عن طريق والده أستاذ الموسيقى، ثم على يد المايسترو الأرجنتيني الشهير دانييل بارنبوم (صديق الراحل إدوارد سعيد)، وبعدها أصبح مساعدا له في تحضير أوبرات فاغنر في مهرجان «بايروت» الشهير في ألمانيا، ثم عمل مديرا موسيقيا لأوبرا أوسلو في النرويج بين عام 1990 - 1992، ولم ندر أنه سيكون منذ عام 2005 قائدا للفرقة الموسيقية لدار الأوبرا الملكية (كوفنت غاردن) في لندن، وفي الوقت نفسه قائدا لأوركسترا «سانتا شيشيليا» العريقة في روما، ويتنقل باستمرار بين العاصمتين، فهو شخص عالمي، لغته الموسيقى الكلاسيكية، إذ يتقن العزف على البيانو ويقود الأوركسترا، وميوله ومواهبه وافرة ومتنوعة تتعدى الحدود، فهو يشرح مؤلفات فيردي وفاغنر ببراعة فائقة، ثم يغني بعض المقاطع بنفسه بصوت رخيم، يكاد يضعه في مصاف المغنين الكبار. يستذكر بابانو إعجابه بالموسيقى العربية التي سمعها من الإذاعة أثناء زيارته الشرق الأوسط، ثم يروي مازحا قصة مغني الأوبرا في مدينة بارما الإيطالية، المعروفة بالروح النقدية لجمهورها، الذي بدأ غناء دوره صائحا «أيمكنني الكلام؟»، لكن الجمهور أحس من اللحظة الأولى أن صوته غير مرغوب به فصاحوا جميعا: «لا.. لا»، فتوقف فورا، وكان ذلك أقصر عرض لتلك الأوبرا!. قدم بابانو في الشهر الماضي في العاصمة الإيطالية حفلة موسيقية رافق فيها على البيانو مغنية السوبرانو السويدية الجميلة نينا ستيم وهي تنشد بصوتها العذب الدافئ أغاني الموسيقار الفنلندي سيبيليوس والنرويجي غريغ والروسي رخمانينوف الشاعرية، التي تقول: «لا تغني في حضرتي أيتها الفتاة الجميلة»، وكذلك: «صمت في ليلة مبهمة»، ولشدة إعجاب ستيم بعزف بابانو في أغنية «آلام» من مجموعة «أغاني وسندوك» لفاغنر، وتصويره للمشاعر الصوفية المنسجمة وأحاسيس الفجر والغسق القادم من الشمال، قامت بشكره وتقبيل وجنتيه بحرارة أمام الجمهور، فهي تحس مثله مشاعر الكلمات والأوصاف، وأصبحت مطلوبة للغناء في السنوات الأخيرة في أكبر وأهم مسارح الأوبرا في العالم، والغريب أنها درست الاقتصاد وإدارة الأعمال ولغة الأرقام في جامعة ستوكهولم بالسويد قبل أن تتحول إلى الموسيقى الكلاسيكية وأغاني الشعر الرفيع وتبدع فيها.

أتبع بابانو بعد أيام بحفل آخر، تحول فيه من عازف إلى مايسترو يقود الأوركسترا ورافقته عازفة البيانو المعروفة اليابانية ميتسوكو أوتشيدا، ابنة الدبلوماسي الياباني الذي خدم في فيينا في الستينات، والفائزة بجوائز أحسن عازفة لبيتهوفن وشوبان في تلك الفترة، التي برعت هذه المرة في الكونشرتو الخامس للبيانو «الإمبراطوري» للموسيقار بيتهوفن، فكانت مباراة ناجحة بين البيانو والأوركسترا، كما كانت أنظار الجمهور تتنقل بين أنامل أوتشيدا الرقيقة، وهي تتراقص على مفاتيح البيانو، وبين لباسها الأنيق، وضمنه بلوزة شفافة ذات لون أزرق فاتح أثارت إعجاب المتفرجات الإيطاليات المعروفات بالذوق الرفيع في الأزياء، ثم تنحني بعد العزف المتقن بزاوية قائمة على الطريقة اليابانية، وكأن جسمها اللدن مازال يافعا. بعدها خلت الساحة لبابانو حين قاد أوركسترا «سانتا شيشيليا» في القصيدة السيمفونية «حكاية بطل» للموسيقار الألماني ريتشارد شتراوس، وشعرنا بأن بابانو كان يعرض قصة حياة بطل رمزي، يخوض المعارك وينتهي بالخلود إلى السلم وراحة البال، وكانت الأوركسترا بين يديه وتحت تأثير عصا القيادة السحرية في منتهى الاندماج بين عناصرها المائة، ومتراصة كأنها آلة واحدة، وكان هو الشعور نفسه حين سمعنا بابانو لأول مرة في بروكسل وهو يقدم أوبرا «أدريان فون نكسوس» لريتشارد شتراوس، ولعل إعجابه بهذا الموسيقار نابع من كون أحد أساتذته في الولايات المتحدة آخر أتباع شتراوس المتوفى عام 1949. قاد بابانو في لندن هذا الشهر عملا جريئا ومغمورا للموسيقار الروسي سيرغي بروكوفييف بعنوان «المقامر»، وقصة الأوبرا مأخوذة من رواية دوستويفسكي الشهيرة بهذا الاسم. شاهدنا بالفعل في دار الأوبرا الملكية (كوفنت غاردن) مسرحية رائعة الإخراج، رافقتها الموسيقى، وكان التمثيل فيها متقنا مثل الغناء، وهو ما لا يتوفر عادة في الأوبرات الشهيرة أو المغنين المعروفين مثل الراحل لوتشيانو بافاروتي، ذي الصوت المذهل المميز، والتمثيل من مستوى الدرجة الثانية، الذي يشفع له الصوت العذب. تدور أحداث الأوبرا في منتجع في ألمانيا يرتاده أثرياء روسيا وغيرها، حيث يقيمون في فندق يسمى «الروليت» (على اسم اللعبة)، ويعتنون بصحتهم، مستمتعين بزيارة حديقة الحيوانات، ويمارسون ألعاب القمار، فيخسر الجنرال الروسي المتقاعد أمواله وأموال عمته المقيمة في روسيا، كما يلاحق إحدى الغانيات ثم يطرد مربي أولاده، وحين يصل الخبر إلى العمة العجوز تسافر إلى ألمانيا، وتفضل المقامرة بأموالها بنفسها، لكنها تخسر ثروتها على دواليب الحظ، بينما ينهمك مربي الأولاد في لعبة الروليت، متحديا مخاطرها ويربح باستمرار، مما يمكنه من الفوز بمعشوقته، لكنها تتركه في لحظة صحو حين، تدرك أنه اشتراها بأمواله إنما يفوته ملاحظة غيابها، لأنه أصبح المدمن الجديد على القمار. قصة الأوبرا حافلة بالمشاهد الدرامية لأن دوستويفسكي (1821 – 1881) كتبها عام 1866 عن خبرة شخصية بعد ولعه المشؤوم بالمقامرة لمدة عشر سنوات، وكان إخراج ريتشارد جونز وتصميم أنتوني ماكدونالد للمناظر من الأسباب الرئيسية لنجاح الأوبرا، أما النجم الحقيقي فكان المغني البارع جون توملنسون في دور الجنرال، وهو المعروف في دور الأوبرا العالمية بقيامه بالأدوار الصعبة في أوبرات فاغنر، وبصوته العميق المتدفق، وأثبت هذه المرة أنه ممثل من الطراز الأول مثل كونه من كبار المغنين، وكذلك روبرتو ساكا (وربما «سقا»، من أصل عربي صقلي) الذي قام بدور مربي الأولاد الروسي، الذي يبحث عن الحب في ألمانيا بين طاولات قمار نبلاء أوروبا الباذخة. التحدي الأكبر كان من نصيب الموسيقار بروكوفييف (1891 – 1953) الذي حول القصة إلى مسرحية غنائية، وكتب لها ألحانا حديثة مبتكرة عام 1916 قائلا بعد قراءته للقصة إنها أثارته وأقلقته في الوقت نفسه. يتوجب تقديم التهنئة إلى بابانو الذي قاد الأوركسترا بانسياب وجمالية تلفت الأنظار وتبهر الجمهور، لأنها المرة الأولى التي أنتجت فيها تلك الأوبرا في إنجلترا، ولم يسمع الجمهور ألحانها من قبل. مغامرة دار الأوبرا الملكية في مقرها الجميل، بعد ترميمه قبل 11 سنة، بعرض مسرحية غنائية غير مألوفة كانت ناجحة بكل المقاييس، وتدل على عراقة في الفن وعمق في الرؤيا المستقبلية، فهناك جواهر مخفية في الموسيقى الكلاسيكية تحتاج إلى من يعيد اكتشافها.

كان بابانو في منتهى السعادة للنجاح الذي حققه، فهو فنان أصيل، وربما كانت فكرة عرض هذه الأوبرا تراوده منذ إقامته في بروكسل وعمله في مسرح العملة، لأن ذلك المسرح أنتج أوبرا «المقامر» لأول مرة عام 1929. مخيلة بابانو مليئة بالأفكار وبراعته في كثير من الألوان والاختصاصات الموسيقية تجعله من النجوم الكبيرة في عالم الموسيقى، ولا ندري أين تولد أفكاره الجديدة، في العاصمة الإيطالية أم البريطانية أم على متن الطائرة التي تقله أسبوعيا بين البلدين؟ وكل مقامراته الفنية تكللت بالتوفيق، فهو يخوض معاركه بعصا القيادة السحرية، ويجعل المتفرج منجذبا إلى الألحان التي تستمر ثلاث ساعات، تقول بعدها في نفسك: «ليته استمر في العزف، لأنني لم أشعر كيف مرت تلك اللحظات القصيرة».