«أنت وأنا»: معرض يجمع الأم والابن في «حوار أجيال» فني

أفكار ومشكلات اجتماعية وتساؤلات وأجوبة في رسومات

لوحة «الحقيقة والسراب» بما تمثله من تناقضات وتساؤلات ومشكلات اجتماعية («الشرق الأوسط»)
TT

في تجربتهما الثانية تسير لور غريّب وابنها مازن كرباج في طريقهما متنافسين متفقين على رسم خط فني نجحا في «قولبته» في خطوة فريدة قد تكون عصية على غيرهما من الفنانين الذين مهما اتفقوا يبقى لكل منهم تفرّدا معينا وخصوصية تميز كل منهم عن الآخر. بعد المعرض الذي قدمه الثنائي عام 2007 ليحكي يوميات حرب يوليو (تموز) 2006 بحسب نظرة كل منهما وينقل الحياة اللبنانية وهي ترزح تحت قصف المدافع وتعيش على وقع تصاعد وتيرة المعارك وازدياد عدد الشهداء، ها هما اليوم يجتمعان في معرض «أنت وأنا». في «أنا وأنت» ترك غريّب وكرباج فضاء أفكارهما حرا طلقا رافضين سجنها في موضوع محدد أو حالة معينة. جمعهما الفن فانطلقت ريشتاهما على السجية كي تحلقا بعيدا في آفاق موضوعات لبنانية محلية أو عالمية أو حتى وجودية تاركين العنان لمخيلة كل منهما لتحلل وفق فلسفتها الخاصة، فتتفق حينا وتتواجه حينا آخر، وقد تصل إلى حائط مسدود في أحيان قليلة. فضاء لوحات «أنت وأنا» رحب يتسع لكل ما قد يجول في أفكار أي مواطن لبناني بشكل خاص وعربي بشكل عام. والفن هنا لا يقتصر على رسم لوحات صاخبة تهكمية فالتة من عقال «قواعد الرسم»، السمة التي تطبع فن كرباج الذي يحرص على إيصال رسالته بكل ما قل ودل، بل يجمع بين حناياه مشكلات اجتماعية وإنسانية تلعب فيه الكتابات التي يتحاور بها الابن والأم ويتبادلان الآراء من خلالها دورا كافيا في إيضاح الصورة. فتبادل الأفكار بين امرأة عايشت الحرب العالمية الثانية والحرب اللبنانية وشاب ثائر يرسم خطوات مستقبله، هي صورة ليست لـ«صراع أجيال» مفترض؛ بل لـ«حوار أجيال»، أحدهما يسأل والثاني يجيب أو يكمل بدوره الأسئلة عاجزا عن الإجابة!. وهنا «بيت قصيد»؛ التجربة التي قرر كل منهما خوضها، أحدهما يبدأ بفكرة معينة فيرسم «خريطة» للوحته ليأتي الثاني ويكمل الطريق التي قد تتطلب جولات متعددة قبل أن ترسو على الصورة النهائية لها. بين منمنمات غريّب وتفاصيل حكاياتها التي ترصفها بأناملها لتنتج لوحات فنية شكلت مدرسة في حد ذاتها، تأتي وجوه كرباج الكاريكاتورية بملامحها التي خرجت عن سياقها أو «مواقعها» الطبيعية، وولدت لوحات «أنت وأنا» بعضها حمل أسماء معينة وأخرى بقيت «مجهولة الهوية». ها هي لوحة «الوهم والسراب» تشير بتفاصيلها وبكلماتها إلى واقع مدينة بيروت، لأننا «لسنا متفرجين، بل نتفاعل مع الأحداث ولا نعيش على الهامش»، وبأسئلتها التي تشكل ذاكرة حية عن عصرنا الحالي بمشكلاته الاجتماعية التي تسأل عما «إذا كان هناك بيت في الفضاء للإيجار» و«مدينة للبيع» بعدما ضاق لبنان بالمالكين غير اللبنانيين وارتفعت أسعار البيوت، وأمثال شعبية «على قدر بساطك مدّ رجليك»... تأتي لوحة صغيرة أخرى متناقضة لتؤكد أن «بيروت أزلية والزلازل لا تقوى عليها». ولوحة «في عينيك» التي تختصر كثيرا من الحنين والذكريات والأمنيات. وللبطاقات الورقية حضورها أيضا برسوماتها المختلفة التي تعكس متناقضات، على غرار لوحات عدة، كـ«الجمال الذي لا يقهر والبشاعة التي لا تطاق». أو تلك التي تتمحور حول أسئلة لا تجد إجابات كتلك التي تقول «لو لم يأكلا التفاحة؟».

كذلك دخل الخرز على خط فن غريّب فطوعته لخدمة عدد من «وجوه كرباج»، من دون غياب التساؤلات أيضا، كتلك التي تقول «أفتش عن ظلي ولا أجد سوى الفراغ»، و«دلّوني على صحراء لأصبح فيها خيالا»، أو تلك التي تجمع الطفل بالناضج مذيلة بعبارة «عصفورك طيّر يا زغيّر».

هي صورة مختصرة لتجربة ناجحة استطاع كل من الأم والابن فيها أن يجتمعا في خطوة خارجة عن المألوف، بعدما قررا توسيع نطاق التجربة والمغامرة التي نجحت قبل ذلك، وبعد معرض حرب يوليو (تموز)، فاستحق الثنائي من خلالها جائزة متحف سرسق في بيروت التي كانت قد حملت بدورها عنوان «أنت وأنا» وهي عبارة عن بورتريه للاثنين معا، عمد كل منهما على رسم بورتريه الآخر من وجهة نظره ليعود صاحب الصورة ويختمها بلمساته الشخصية. «قد يكون الطموح أكبر من حياة واحدة. واحد منا على قارعة طريق النهاية والآخر لا تتسع الحياة لطموحاته» هي كلمات قليلة ولكنها معبرة تختصر «أنت وأنا» على حد تعريف الأم والابن لتجربتهما المشتركة.