معرض فني مثير عن «الجريمة والعقاب» في باريس

يستعير اسمه من رواية ديستويفسكي ويجمع لوحات تمتد على مدى قرنين من الزمان

متحف «أورساي» جمع «القبح الفتان» تحت قبته
TT

«المتحف يبلغ زواره أن بعض صور هذا المعرض تتضمن مشاهد من شأنها أن تجرح حساسيتهم ولا سيما صغار السن». ليس هذا تحذيرا من النوع الذي كان يوضع على أبواب دور السينما التي تعرض أفلاما لا تناسب المراهقين، بل هو نص يتصدر دليل المعرض التشكيلي «الجريمة والعقاب» المقام حاليا في متحف «أورساي» للفنون الحديثة في باريس، ويستمر حتى أواخر يونيو (حزيران) المقبل. وسبب التحذير أن المعرض الذي استعار اسمه من رواية شهيرة للكاتب الروسي ديستويفسكي، يجمع لوحات ومنحوتات تمتد على مدى قرنين من الزمان بعد الثورة الفرنسية، من غويا إلى بيكاسو، تشترك في أنها تحتوي على مشاهد قتل وجثامين ودماء وأوصال مقطعة. وبهذا، فإن أبرز المعروضات التي من المنتظر أن تنال اهتمام الزوار هي مقصلة بالحجم الطبيعي، تعود إلى عام 1872، من النوع الذي كان يستخدم في تنفيذ أحكام الإعدام في فرنسا.

وما دمنا في حديث أحكام الإعدام، فلا بد من التوقف عند الجهود التي بذلها المحامي الشهير ووزير العدل الفرنسي الأسبق روبير بادينتير في سبيل إلغاء هذه العقوبة. ولهذا أطلقت الصحافة على هذه التظاهرة الفنية غير المسبوقة تسمية «معرض بادينتير». لكن الرجل ليس الوحيد الذي يقف وراء الفكرة بل بدأت الرحلة منذ عام 1791، أي منذ أن دعا القانوني الفرنسي لوي ميشيل لوبيليتييه، الملقب بـ«ماركي دو سان فارجو» إلى وقف عقوبة الإعدام بالمقصلة. ولم يتحقق للرجل ذلك إذ مات قتيلا بعد سنتين من مجاهرته بذلك المطلب. ومر قرنان على تلك الحادثة حتى مجيء رئيس اشتراكي إلى الحكم هو فرانسوا ميتيران الذي أصدر، بعد أشهر قلائل من دخوله «الإليزيه» عام 1981 قرارا بإلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا.

لم يتوقف الروائيون، طوال القرنين الماضيين، من تناول شخصيات المجرمين وما كان في انتظارهم من عقوبات. والأمر نفسه حدث مع الرسامين الذين وجدوا في الجريمة مصدرا للإلهام وفي أجوائها ما يغري بالتصوير. واعتبارا من أواخر القرن التاسع عشر تجلت نظرية دفعت بعض الفنانين إلى الاعتقاد بأن الميول الشريرة تنعكس على المظهر الخارجي لصاحبها. وبهذا تركت الجريمة بصمتها على عدد لا يحصى من اللوحات والتماثيل والصور والأفلام السينمائية، سواء في تصوير لحظات ارتكابها أو في تقديم عواقبها. لذلك تتكرر في الرسوم مشاهد المقاصل والمشانق والضمادات والكراسي الكهربائية وحتى الخوازيق. ومن خلال الجريمة طرح المبدعون مفهوم الشر، بشكل أعمّ وأبعد من مجرد الضرر الاجتماعي، أي باعتباره هما من الهموم الميتافيزيقية للإنسان.

نحن هنا إزاء سؤال ملتبس يقوم على البحث عن الجمال في ثنايا العنف، أو العنف في أحضان الجمال. ولعل زائر المعرض يجد نفسه أمام لوحة تصور ما يقشعر له البدن لكنها قمة في الإبداع الفني. أليس هذا ما كان الفلاسفة يسمونه «القبح الفتان»؟ وكيف يمكن أن تجتمع، في معرض واحد، لوحة «غارنيكا» الشهيرة لبيكاسو مع المقصلة التي قطعت أعناق ملوك فرنسا ونبلائها؟ إن جان كلير، مؤرخ الفنون المشرف على المعرض، لا يرى تعارضا في، ذلك بل يرى أن من الضروري الانطلاق من تلك الآلة الرهيبة لرواية تاريخ الجريمة منذ الثورة الفرنسية. ولعل ملصق المعرض يصور هذا التداخل «الخلاق» بين ما هو بشع وما هو إبداع، من خلال لوحة لأطراف ممزقة تتجلى فيها عبقرية الفنان الذي رسمها. ولا ينكر جان كلير أن صاحب فكرة المعرض هو المحامي روبير بادينتير، «أبو إلغاء عقوبة الموت»، وهو يجمع بين الصور واللوحات والتماثيل وقصاصات الصحف وتتجاور فيه الرؤوس المنحورة مع أعمال كبار فناني العصر. ويضيف أن عملية تجميع هذه المعروضات لم تكن صعبة لأن أكثر من نصف الأعمال في المتاحف العالمية تتناول الجريمة بكل أشكالها، من قتل وخنق واغتصاب وإطلاق نار وسجون، وبهذا كان على منسقي المعرض أن يمارسوا عملية اختيار وغربلة، امتدت من الرسامين القدامى ووصلت إلى ملصقات لآندي وارهول وصور للمصور والمخرج الأميركي ديفيد لينتش.

كانت رغبة المشرفين على متحف «اللوفر» تميل إلى استضافة هذا المعرض المثير. لكن الاختيار وقع على متحف «أورساي» ذي العمارة المميزة التي جعلت من البناء المهجور لمحطة للسكك الحديدية، على الضفة اليسرى لنهر السين، صالة شاسعة للعرض الفني. وتحت السقف الزجاجي المقوس للمتحف تناثرت المعروضات التي زاد عددها على 450 قطعة، تتحدث كلها عن الجريمة في نشيد صارخ يتغنى، في نهاية الأمر، بالعدالة. وقبل الافتتاح بأيام قلائل، نشرت مجلة «النوفيل أوبزرفاتور» مقابلة مع روبير بادينتير، قال فيها إنه أمضى حياته يشتغل على تحقيق مفهوم العدالة، سواء من خلال المحاكمات أو القوانين أو الدساتير. ثم وجد نفسه يتساءل عن المنظار الذي رأى الفنانون العدالة من خلاله، وهل كانت زاوية النظر متطابقة مع القانونيين أم مغايرة لها؟ إنها محاولة لفهم الرأي الآخر، خطرت في بال رجل مهموم بسؤال كبير: لماذا ما زال الإنسان، منذ أيام قابيل وهابيل، يقتل الإنسان؟ وفي دليل المعرض نص للمفكر ميشيل سير يقول فيه إن الجرذ هو الحيوان الوحيد الذي يقتل من أجل القتل، لا في سبيل أي هدف آخر. ويخرج المفكر بخلاصة ذات دلالة هي أن الإنسان هو الجرذ لأخيه الإنسان.

في نص آخر نقرأ هذه العبارة لفيكتور هوغو: «ضع القاضي في كفة وفي الكفة الأخرى ضع الجلاد ثم قم بوزن عدالة البشر وقل لي ما رأيك في الإعدام». أما بادينتير فيرى أن الفترة التي يغطيها المعرض والممتدة من الثورة الفرنسية إلى عشية الحرب العالمية الثانية، تميزت في بداياتها باستقرار قانوني ملحوظ، فقد وضع الفرنسيون عشرة دساتير وحافظوا على القانون المدني ذاته الصادر عام 1804 والذي يعتبر الدستور الحقيقي لفرنسا. وبالعكس من ذلك، شهدت الحركة الفنية تطورات متتابعة، ولم تظهر صورة المجرم في اللوحات إلا بعد الثورة الفرنسية لسبب بسيط هو أن المحاكمات كانت، قبل 1789، تجري في جلسات مغلقة ودون حضور محامين. وكان من أوائل الإجراءات التي اتخذتها الجمعية الوطنية المنبثقة عن الثورة أنها جعلت الجلسات علنية. وهكذا أصبح في المقدور رؤية سحنات المتهمين وسماع أصواتهم. وطبعا، استفادت الصحافة من العلنية من خلال إثارة فضول القراء لمعرفة ما جرى خلال الجلسات. وكانت أخبار المحاكم تحتل حيزا واسعا في الجرائد. ومنذ تلك اللحظة ولد ما يسميه بادينتير بـ«الاستعراض القضائي» الذي لم يتوقف عن جذب الجمهور حتى يومنا هذا.