القاهرة تستعيد زمن بديع خيري

بكتاب جمع أعماله الكاملة

الريحاني مع بديع خيري الذي كتب مقدمة مذكراته الأولى
TT

في أجواء فنية وسياسية عاشتها مصر في الربع الأول من القرن الماضي، ظهر المبدع بديع خيري ورفيقه سيد درويش كشهابين، وبينما لمع درويش، كادت الذاكرة تنسى خيري.. مات درويش، موسيقار مصر العظيم، يوم رجوع زعيم ثورة 1919 سعد زغلول من منفاه.. فقال نجيب سرور عن سوء حظه، إنه كمن مات يوم القيامة لم يلتفت لرحيله أحد!.. مرت سنوات طويلة وانزوى درويش إلى أن كرم أفضل تكريم باختيار لحن «بلادي.. بلادي» نشيدا قوميا لمصر.. كان درويش منقذا للموسيقى المصرية من براثن المقامات التركية العتيقة.. خلال سنواته البسيطة غير ملامحها.. التحم بالفلاحين والعمال و«الصنايعية» يخاطبهم بنغماتها.. ويثور الشارع ضد المحتل، ثم انطلق بها في آفاق المسرح الغنائي، طائرا محلقا برفقة طائر آخر لا يقل عنه عنفوانا.

بديع خيري، شاعر ومسرحي ثورة 1919.. من يستيقظ المصريون على كلماته من دون أن يلتفتوا إلى كاتبها، هو مبدع «قوم يا مصري»، و«صبح الصباح فتاح يا عليم»، و«يا واش يا واش يا مرجيحه»، و«يهون الله يعوض الله»... كان خيري وقود ثورة 1919، مثلما كان النديم وقود ثورة عرابي، تذكره المصريون عقب عقود فأعادوا له بعض اعتباره.. وطبعوا له أعماله الكاملة.. وهي نتاج دراسة امتدت لسنوات أجراها باحث مصري رصين هو الدكتور نبيل بهجت، تناولت أشعاره ومسرحه وأغانيه، ومجمل إنتاجه حتى وفاته عام 1963.

ولد بديع في 18 أغسطس (آب) عام 1893 بالقاهرة، من أصول تركية، حيث نزح والده من الدولة العثمانية إلى مصر عام 1890 وعمل مراقب حسابات في دائرة والدة الخديوي عباس الثاني، أما والدته فمن أصول مصرية، وكان جده لأمه يدعى الشيخ الليثي أحد كبار حي تجار الغورية بوسط القاهرة، أرسله والده إلى «الكتاب» فحفظ القرآن وانتظم في دراسته حتى حصل على دبلوم المعلمين عام 1914.

خلال نشأته في حواري القاهرة التاريخية روى خيري روحه بثقافتها الشعبية، وكانت المقاهي مدرسته الأولى في التأليف المسرحي.. على كراسيها التقط اللهجات المختلفة واطلع على شخصيات كثيرة وثرية، ثم خاض غمار السياسة فانتسب للحزب الوطني منذ صباه، ونشر وهو في الثالثة عشرة من عمره - عام 1906 - في جريدة الحزب قصيدة عن «عقيدة الحزب الوطني» التي كان يعتنقها معظم أبناء الشعب المصري في ذلك الوقت ووقعها بـ«ابن النيل».

وكرر النشر باسمه صراحة بعد ذلك، فأرسل إلى جريدة «المؤيد» قصيدة بمناسبة اختيار الشيخ علي يوسف رئيسا لجمعية «الهلال الأحمر» بعد تكوينها. وعبر الشعر الفصيح كانت انطلاقة بديع خيري إلى الزجل والمسرح الغنائي الذي شهد مجده فيما بعد.

عمل بديع فور تخرجه مترجما في شركة «الهواتف» ثم عمل مدرسا في مدرسة رفاعة باشا الطهطاوي في طهطا، بصعيد مصر، وانتقل منها إلى مدرسة السلطان حسن في حي شبرا الشعبي بالقاهرة، وفى تلك الفترة ألحت عليه هواية نظم الزجل، وأراد من خلال إمكاناته ومواهبه أن يحدث تغييرا في هذا اللون من النظم، على الرغم من نظرة الازدراء والاستهانة التي كان الناس ينظرونها للزجالين آنذاك.

ويسرد الكتاب الصادر عن دار «ميريت» بمصر طريقه الوعر نحو الزجل، فيقول على لسان خيري: «بعد أن استقر بي الحال في وظيفة التدريس، انتابتني هواية جديدة.. وهي نظم الزجل.. وكان الزجل يؤلف من خمسين أو أربعين بيتا، كلها من بحر واحد.. وكان يتزعم كتاب الزجل أربعة: شعبان عوني وعزت صقر، الذي كان يلقب بأمير الزجالين، ومحمد عبد النبي، ودكتور العيون إبراهيم شدودي، فكتبت الزجل الواحد على أوزان مختلفة، وإذ بالزجالين يثورون علي، ويتهمونني بأنني شاب عابث بالقيم الزجلية...».

ويقول خيري عن بقية رحلته: «في الفترة ما بين عامي 1914 و1918 مارست السلطات الإنجليزية تصرفات تعسفية ضد الشعب المصري لتضمن تأييده في الحرب العالمية الأولى، وسعيا منها لتوفير الإمدادات لجيوشها في الحرب، وكان طبيعيا أن تجنح الميول إلى طلب الترفيه والتسلية والسلوى تفريجا للكرب الخانق، وتنفيسا عن الصدور المحرجة، وبوحي تلك الميول والأشواق بدأ المسرح الضاحك يبزغ».

ويضيف الكتاب: «انتشرت في هذه الفترة ظاهرة إلقاء المنولوجات، خاصة التي كانت تعلق على الأحداث التاريخية والأزمات المختلفة التي كانت تمر بها البلاد، وارتفع قدر الزجل عندما دخل المنولوج المسارح حيث يلقى بين الفصول وأصبح له هدف ومرمى، وكتب بديع خيري أول منولوج له عام 1917 للمنولوجست فاطمة قدري». وبهذا المنولوج دخل بديع خيري عالم المسرح، ثم حدث له تطور تاريخي في حياته الفنية بلقائه نجم الكوميديا الأشهر نجيب الريحاني، فمع بداية عام 1918 انفصل الريحاني عن مؤلفه أمين صدقي على إثر خلاف حدث حول مسرحية «حَمار وحلاوة»، وبدأ في البحث عن مؤلف جديد، في الوقت الذي كان يعرض فيه بديع خيري مسرحيته الأولى، التي كانت تقدمها فرقة نادي التمثيل العصري، وكان خيري يخفي اسمه خشية أن يفقد وظيفته الحكومية. وأعجب الريحاني بالمسرحية، إلا أن أحد أعضاء الفريق ادعى أنه مؤلفها فطلب منه الريحاني أن يكتب له لحنا عن «جماعة أعاجم»، وكتب بديع اللحن ليقدمه هذا العضو باسمه للريحاني ويقول مطلعه: «إحنا يا فندم تجار أعاجم.. جينا من شان بيعوا بضاعة تمام».

وسرعان ما اكتشف الريحاني الحقيقة، فاتصل ببديع ووقع معه عقدا في 18 أغسطس 1918، أصبح بديع بموجبه مؤلفا لفرقة الريحاني، فكتب له استعراض «على كيفك» و«مصر» حتى 1920، وبداية من الاستعراض الثالث «ولو» انضم سيد درويش لفرقة الريحاني. وفي مارس عام 1919 قامت الثورة وجاءت استعراضات تلك الفترة لتقف على قضايا العمل الوطني وقدم بديع استعراضات «قولوله»، و«اش»، و«كل من ده»، و«رن»، و«فشر».

واعتمدت هذه الاستعراضات بشكل كبير على الأغاني المعلقة على الأحداث الجارية والواقع السياسي، إلى أن جاء عام 1925، حيث أصدر بديع خيري، في 23 ديسمبر (كانون الأول) مجلة «ألف صنف»، وهي مجلة اجتماعية ثقافية أصدرها بالعامية واهتم فيها بالحركة الزجلية، فنشر لكثير من زجالي عصره وأصدر في يناير (كانون الثاني) عام 1926 بالاشتراك مع محمود طاهر العربي مجلة سياسية أطلق عليها «الغول»، وكان أهم أبوابها «جولة في المنام» التي كان يعرض فيه بالسياسيين في عصره، لكن كل ما نشر في هذه المجلة جاء من دون توقيع، وصادرها رئيس الوزراء محمد محمود باشا بعد ذلك مع بداية عام 1929.

وفي نهاية عام 1927 أصدر محمود طاهر العربي مجلة «مصر الحرة» ورأس بديع خيري تحريرها، ثم أصدر خيري جريدة ثورية أخرى اسمها «النهاردة»، وهي جريدة يومية هدفها الأساسي الجهاد من أجل الدستور.

قسم الباحث الكتاب الضخم إلى جزأين، احتوى الأول على دراسة عرض فيها الباحث لنشأة بديع خيري وبداياته الأدبية، كما وقف وقفة موجزة عند الصحف التي أصدرها أو شارك في تحريرها، كما حقق بعض قصائده الزجلية.

وضم مجموعة من القصائد التي تم نشرها في الدوريات، ثم صنفها تبعا لموضوعاتها، مراعيا التسلسل التاريخي، أما الجزء الثاني من الكتاب فحمل ما عثر عليه الباحث من أغان، وعمد إلى تصنيفها إلى أغان عامية وأغاني الأفلام وأغاني المسرحيات والاستعراضات، وذيل الباحث هذا الجزء بـ«ببليوغرافيا» شملت الأغاني والمسرحيات وثبت المصادر.

كتاب «بديع خيري.. الأعمال الشعرية الكاملة»، عمل استعاد به المصريون بريق مبدع كاد يضيع تراثه في الهواء، خاصة مع عدم حرصه على جمع أعماله وتوثيقها.. جمعت أعماله بين دفتي الكتاب، فعادت الروح إلى بديع بعد عقود من إهمال إنتاجه.