فن العمارة الشرقي في البلقان يباهي تصاميم المعمار الحديث

يقف شاهدا على نمط الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمسلمين في أوروبا إبان القرون الماضية

لا توجد حاجة لصالات الأفراح والفنادق لإقامة المناسبات المختلفة بما فيها حفلات الزواج والختان والمناسبات الإسلامية وغيرها فالبيت الشرقي يتسع لكل ذلك وأكثر («الشرق الأوسط»)
TT

لم يبقَ سوى القليل من المعمار الشرقي بطابعه الإسلامي في أوروبا، وبصفة أخص في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان، ولا سيما في المدن العتيقة التي لا تزال تحافظ على آثارها الشرقية العتيقة، ومنها المنازل التي تحولت إلى قبلة للسياح من مختلف أنحاء العالم. ومن ذلك بيت أسرة «زفيرزو» الذي يعود بناؤه إلى 300 سنة خلت. وفي عام 1965 اشتراه متحف سراييفو ليكون نموذجا خالدا لفن المعمار الشرقي العتيق، وشاهدا على نمط الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمسلمين في المنطقة إبان القرون الماضية، وحتى بدايات القرن العشرين. وهي أنماط لا تزال سائدة في الكثير من الأسر البلقانية المسلمة وحتى اليوم، مع بعض التغييرات التي فرضها زحف الأزمات الحديثة.

وقال مدير «البيت الشرقي» التابع لمتحف سراييفو، مصطفى أرسلانوفيتش لـ«الشرق الأوسط»: «صاحب البيت كان من ملاك الأراضي الذين يؤجرون أراضيهم مقابل نسبة مئوية معينة تراوحت تاريخيا بين 10 و20 في المائة. وقد تم بناء هذا البيت في القرن الثامن عشر وتحديدا سنة 1730 وفق بعض المصادر، ولدينا مصادر أخرى تشير إلى أنه بني قبل ذلك، وأنه تعرض للعدوان النمساوي الهنغاري في القرن السابع عشر وتحديدا في سنة 1697 عندما أحرق النمساويون والمجريون سراييفو بعد نهبها وسرقة ممتلكات أهلها». وتابع «عثر على نفس مواد البناء التي كانت تستخدم في القرن 17 في أساسيات البيت عند ترميمه آنذاك، وهي نفس المواد الموجودة في أساسيات وجدران جامع يحيى باشا القريب من هنا». وتتكون مواد البناء من قوالب الآجر، التي تفصل بينها بعد كل متر ونصف المتر إطارات خشبية، والتي أخذت مكانها في بعض أنماط البناء الحديث، الخرسانات، أو ما يعرف بالإسمنت المسلح، ويبلغ سمك جدار البيت 60 سنتيمترا. وجميع أرضيات الغرف وكذلك الطابق الثاني في البيت من الخشب، أما أرضية البهو فهي من الحجارة الصغيرة.

وتبلغ مساحة «البيت الشرقي» أكثر من ألف متر مربع، وكانت تتبعه حديقة بنفس المساحة أو أكبر، ويمثل البيت وثيقة تاريخية هامة تكشف طبيعة الحياة في تلك الفترة، ولا سيما لدى الطبقة الميسورة من الأغوات (جمع آغا) والتجار، وقادة الجيوش، والمسؤولين السياسيين. والبيت مكون من جزأين وطابقين، فما إن يدلف الزائر من الباب الرئيسي الكبير وهو جزء من السور المحيط بالبيت حتى يتراءى له من البهو الفسيح 3 مكونات أساسية، هي: الجزء المتعلق بمكان إقامة الخدم وهو في واجهة المدخل، ويتكون من طابق أرضي، وعلى اليسار مخزن (طابق أرضي) وهو واحد من 3 مخازن في البيت، أحدها للملابس والثاني للآلات والأدوات المستخدمة في وقت سابق، والثالث مخصص للطعام، ولا تزال بعض قطع الفخار والنحاس موجودة في مطبخ ومخازن البيت الثلاثة، وكذلك ميزان من عهد جميل معلق بإحدى جدران المخزن، حيث كانت ثروات العائلات تقاس أيضا بما تملك من نحاس وفخار وتحف، وغرفة في الطابق الأول لاستقبال الضيوف من الرجال. وهي غرفة مجهزة لتكون مكتب أعمال وعقد الصفقات، أو صالونا ثقافيا، أو منتدى سياسيا، كما يمكن تحويلها، وهي خاصية تتوفر في جميع غرف البيت، إلى غرفة نوم.

وللحفاظ على الخصوصية، تم فصل الجزء الخاص بالأسرة، وهو الأكبر، عن الجزء المتعلق بالمدخل ويضم مكان إقامة الخدم أثناء العمل، والضيوف من غير الأسرة. ويدخل للجزء الأسري من خلال باب كبير في سور يفصل البيت كما لو كان بيتين في مبنى واحد.

ويبدو البهو، الجزء الخاص بالأسرة في البيت، واسعا جدا وتحيط به أسوار عالية، مقارنة بالجزء الخاص بالضيوف والخدم، وفيه المطبخ بمعداته النحاسية والفخارية، وإن بدت قليلة جدا خلال الزيارة. وعلى يسار مدخل المطبخ غرفة استقبال النساء والضيوف من الأهل والأقارب. ويشرح أرسلانوفيتش طبيعة الحياة الاجتماعية طبقا للتقاليد الإسلامية «عندما يأتي ضيوف غير محارم، يدخل النساء إلى قسم الأسرة من البيت، وقسم الحريم هو دائما أفضل وأوسع وأحسن تأثيثا وأكثر جمالا» وأردف «لم يكن الأغنياء يفاخرون ببناء بيوتهم الفخمة على الطرق العامة، ليظهروا ثراءهم وبذخهم، بل كانت بيوتهم متواضعة من الخارج، ودائما تحيط بالبيت الشرقي أسوار عالية، ولكنها لا تؤذي الجيران، ولا تحجب نور الشمس عنهم، ولا تسمح بالتطفل على خصوصياتهم، ولم يكن ينظم ذلك القانون، وإنما التقاليد المستوحاة من المبادئ الإسلامية الخالدة».

وفي «البيت الشرقي» لم تكن هناك حاجة لصالات الأفراح والفنادق لإقامة المناسبات المختلفة بما فيها حفلات الزواج والختان والمناسبات الإسلامية وغيرها، فالبيت يتسع لكل ذلك وأكثر. ويتم ذلك في بهو الجزء المخصص للأسرة، وغرفة استقبال الضيوف المقربين من الأهل والأقارب، وهي عبارة عن صالون كبير يتسع للعشرات من الأفراد.

وعندما يكون هناك ضيوف من غير الأهل والأقارب، يقيمون في مكان الاستقبال، وعندما يتم تجهيز الطعام، يوضع في دولاب دوار موجود في الحائط الفاصل بين جزأي البيت، ثم يدار فتصبح الأطعمة والأشربة والفواكه وغيرها في متناول الضيوف في الصالة المخصصة لهم دون حاجة لنساء أو رجال يأتون بالطعام من المطبخ ويقدمونه للضيوف مباشرة. ويطلق على الدولاب الدوار باللغات المحلية «تشيكما دولاب» ولا يستطيع أحد من الضيوف الدخول إلى الجزء المخصص للأسرة، في حين يستطيع صاحب البيت فقط المرور من الجزء الخاص بالعائلة إلى الصالة المخصصة للضيوف.

ويوجد بكل غرفة من الغرف السبع بالجزء الأسري من البيت، أرائك تقليدية تحيط بثلاثة جوانب من الغرفة، ودولاب للمفروشات والأغطية والوسائد، ومكان للاستحمام، ومدفئة تعمل بالخشب، وبها ثقوب تنشر الدفء في كل مكان بالغرفة، وهي آية في الإتقان، وتعتبر جزءا من ديكور البيت، وتحفة فنية، أكثر منها موقدا للتدفئة أو مدفأة. كما توجد في الطابق العلوي غرفتان لإعداد القهوة، ومكانان للوضوء يسميان «قمرة الوضوء»، وأرضية الغرف مفروشة بالسجاد العتيق، وبعض الوسائد مكتوب عليها باللغة العربية «مرحبا بضيوفنا الكرام»، وتوجد في الطابق العلوي أيضا 4 حمامات، وكل ذلك أثار إعجاب وتقدير السياح الغربيين، كما يقول مصطفى أرسلانوفيتش: «عندما يأتي السياح من أوروبا ويرون أماكن الاستحمام والحنفيات الطبيعية في بهو البيت ويقارنون ذلك بما كان سائدا عندهم في نفس الفترة، يدركون إلى أي مدى كان المسلمون متفوقين ومتقدمين ومنظمين اجتماعيا وثقافيا».

لم يكن البناء مريحا وموفرا لأقصى حالات الراحة والاستجمام والحفاظ على الخصوصية فحسب، ولم يكن ذلك الخاصية الوحيدة للبيت الشرقي فقط، بل إن الماء والزهور جزء لا يتجزأ من فن المعمار أو ثقافة المعمار الشرقي، فأغلب البيوت الشرقية في المنطقة يتوفر فيها الماء والحدائق بشكل لافت للغاية، ففي «البيت الشرقي» كان يتوفر أكثر من تسعين نوعا من الزهور. وإلى جانب توفر الماء في كل بيت قبل 300 عام في المدن على الطراز الشرقي كانت هناك حنفيات سبيل في الشوارع بلغ عددها في مدينة مثل سراييفو على سبيل المثال 156 حنفية.