«كوم الدكة» بالإسكندرية يحتفل اليوم بـ«فنان الشعب» سيد درويش

زارته «الشرق الأوسط» وشاركت أهله احتفالاتهم بذكرى مولده

كوم الدكة يحتفل بذكرى ميلاد سيد درويش
TT

كوم الدكة.. الحي الشعبي بالإسكندرية الذي ولد وعاش فيه فنان الشعب سيد درويش، يتحول اعتبارا من اليوم «الجمعة» إلى كرنفال فني لأغاني وموسيقى سيد درويش، احتفاء بيوم مولده في 17 مارس (آذار). المهرجان يقام تحت عنوان «زوروني كل سنة مرة»، وتنظمه «جمعية الإسكندرية للثقافات والفنون» بالتعاون مع أهالي الحي وبدعم من «قهوة فرج» و«قهوة عبد المنعم» بالحي، واستوديو «هاي هات»، والجمعية الخيرية المصرية، وبرنامج «نسيج مبادرة التنمية الشبابية المجتمعية».

وعلى مدار أسبوع سيشهد الحي على مقاهيه وشوارعه عددا من الفعاليات، من بينها أمسيات غنائية، ومعارض فنية ووثائقية من وحي حياة وأعمال سيد درويش في حارات الحي. كما سيقام حفل غنائي كبير بجوار قهوة فرج في شارع سيد درويش يحييه باقة من الفرق منها: «مسار إجباري»، و«أسرار الشرق»، و«استيشن»، و«عرب باند»، و«جيبسيا»، و«بازل»، و«إنسان»، وعدد من الفنانين المصريين والعرب وجوقة من الأهالي.

وسوف يبدأ كرنفال سيد درويش من الخامسة وحتى الحادية عشرة مساء، كما ستعرض الفعاليات على شاشات عرض كبيرة في أنحاء كوم الدكة، وسيتم توزيع هدايا تذكارية على أهالي الحي.

«الشرق الأوسط» شاركت أهالي كوم الدكة احتفالاتهم بذكرى مولد فنان الشعب. تجولت في حواريه وأزقته، واستمعت إلى ذكرياتهم معه وزارت بيته الذي عانى من الإهمال والنسيان لسنوات طويلة إلى أن قررت محافظة الإسكندرية تحويله إلى متحف يضم تراث الفنان.

رحلة صعود تقطعها عبر مداخل الحي الذي يقبع فوق قمة هضبة عالية تختصر طبقات من تاريخ وروح الإسكندرية القديمة.

يستقبلك أهالي الحي بحميمية على الرغم من معرفتهم أنك غريب عنهم، لأنهم يمثلون عائلة كبيرة واحدة تقطن الحي منذ ردح من الزمن. الجميع يفخرون بانتمائهم إلى الحي على الرغم من شعبيته، وربما ستشعر بأنهم جميعا أحفاد وأبناء سيد درويش من عشقهم الطاغي له.

السير في أرجاء الحي متعة، لأنه يشبه المغارة في تخطيطه، ومن أعلى الجبل يمكنك أن تشاهد الإسكندرية كلها. ومن المعروف أن الحملة الفرنسية على مصر اتخذت تلك الهضبة كبرج للمراقبة، وكان يطلق عليها في الماضي هضبة «كريتان»، وهو اسم أحد ضباط الحملة، ثم تحولت إلى معسكر إنجليزي مع احتلال الإنجليز لمصر. من الشمال يحدها شارع فؤاد؛ شارع القصور والفيلات وبه منازل القناصل وأرقى المحلات، ومن الجنوب يقع استاد الإسكندرية والحي اللاتيني وحي محرم بك، ومن الغرب محطة مصر والمسرح الروماني، ومحطة الرمل، ومن الشرق حديقة الشلالات.

يفتخر محمد عبد المنعم رجب، صاحب مقهى «منعم» أو «سيد درويش»، بانتمائه إلى الحي، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «كان منزل سيد درويش ملاصقا للقهوة، كان هو ووالده الشيخ درويش البحر مقيمين في القهوة، وعلى الرغم من سفره لبلاد كثيرة، كان يحب حيه وبصفة خاصة القهوة، لكنه توفي وهو في أول الثلاثينات سنة 1923، وكان يغني بعض أغانيه هنا في ركن القهوة، ويلحن أوبريتاته ومسرحياته، وكان دائما يصاحبه عواد اسمه زكي مراد والد ليلى مراد». يتابع الحاج محمد: «أما ابنه محمد البحر، فكان زميلي في الدراسة، حل محل والده ولم يترك المكان هنا، فكان يعقد مقابلاته هنا، ومعه محمد عبده صالح عواد أم كلثوم، وكان محمود بيرم التونسي يعشق القهوة جدا، يأتي صباحا من السيالة ويغادرها مساء. من القاهرة كان أحمد رامي، من زبائن القهوة، كان يقول: أحب كوم الدكة لحبي لسيد درويش، وأحببت أهل المنطقة كلها، وقال: أنا كتبت أغنية «يا ظالمني» في القهوة هنا، وجاءني الإلهام في هذا الركن».

يصمت الحاج محمد ثم يتابع: «كنت أرى رجلا كبيرا جدا في السن أثناء طفولتي اسمه بديع خيري، وأيضا زكريا أحمد، كان يقول: ليت لي ابنا مثل محمد البحر في إخلاصه لوالده. وقال لوالدي مرة: أي شخص يعمل أي لحن لا بد أن يأتي للشيخ سيد.. إنه منبع كلنا نأخذ منه. حتى القصبجي كان يأتي هنا ويردد أغاني سيد درويش، كما تردد على القهوة نجيب الريحاني، وهنا أطلق عليه سيد درويش (كشكش بيك)».

وعن الحكايات التي سمعها حول سيد درويش، يقول: «ذات مرة مع دخول الفجر، كان ذاهبا ليصلي الفجر في جامع بني حذيفة، وسمع في طريقه أما تصحي ابنتها: (قومي يا بنتي.. نحن الفجرية.. هيا نعجن العجين).. ومن هنا ألف أغنية «الحلوة دي»، وألف هنا «أنا هويت وانتهيت»، و«ضيعت مستقبل حياتي»، و«يا عشاق النبي»، وكان الناس يندمجون معه في القهوة ويغنون وراءه، وسمعت أن أحد أصدقاء الشيخ سيد، وكان فنانا أرمانليا، رسم له صورتين؛ واحدة كشيخ وواحدة كأفندي، كي يضعهما في مواجهة بعضهما، لكن الشيخ سيد وضع صورته وهو أفندي هنا في هذا المكان، ونحن محتفظون بها منذ أن وضعها بيده».. ويتذكر الحاج محمد: «من المواقف الطريفة أيضا مع بيرم التونسي، لأنه كان جميل الوجه ويشبه الأجانب، وكان (الصنايعي) في القهوة لا يعرفه وحينما طلب بيرم التونسي من أحد عمال القهوة كرسيا، قال هات كرسي للخواجة، فانفعل بيرم جدا وقال له: أنا نفيت من أجلكم!».

ويؤكد الحاج محمد: «القهوة عمرها يعود إلى ما قبل ميلاد سيد درويش، أي قبل عام 1892، لأني ورثتها عن والدي وجدي، وهذا الشارع اسمه شارع سيد درويش ويعتبر عصب كوم الدكة وأكبر شارع فيه، في الأول كان اسمه سوق كوم الدكة، وبعد الثورة تغير اسمه إلى شارع سيد درويش، ومسرح محمد علي أيضا تغير اسمه ليكون مسرح سيد درويش».

يشتهر حي كوم الدكة بالمهن والحرف مثل: البنائين و«الفروماتونية» (عمال الزخارف الجبسية)، وكانت أشهر المهن «الفورمجي» و«الأويمجي» (عامل نقاشة الخشب)، وكان أكثر سكانه من المصريين والجريك والنوبيين الذين غنى لهم سيد درويش، لأنه لم يترك شيئا لم يغن عنه.

يقلب الحاج محمد شريط الذكريات ويحكي: «من أشهر الخواجات الذين عاشوا هنا كان الإيطالي شونتو فانتي، كان (فروماتوني)، وكان عنده ورشة كبيرة على أول الشارع ويمتلكها الآن أولاد محمد الجميل، الذي كان يعمل عنده، والخواجة فانتي هو الذي قام بمعظم الزخارف في الحي اللاتيني. وفي ناحية الاستاد كان يسكن الخواجة الجريجي دميتريادس، كان مشهورا بالموبيليا، وسيد درويش غنى له: (يا هادي يا هادي، بكره الموبيليا تيجي من مرسيليا)، قال له: لماذا؟ هو المصري يده قصيرة، أو صنعته ناقصة.. والنبي لو ترسى على حصيرة ولا حاجة إلى مرسيليا ولندن!».

ويؤكد الحاج محمد: «اليهود كانوا أقلية، كان على القمة خواجة سلامون كان خياطا، وعم موسى أبو سلامون كان يبيع لوتاريه (ورق الياناصيب)، والخواجة جاك أيضا. الجريك كانوا يعملون العيش الفينو، وكان عندنا فرن (إنترناشونال)، وكان أغلبهم بقالين، هناك الخواجة ساوا كان بجانب القهوة هنا، وكان يحب دائما أن يلعب مع الناس طاولة، وكان رجلا ابن نكتة، وكان الخواجة نيكولا ميكريس، بقال أيضا، ينافس المصري حسن الحمش، الذي كان بطل مصارعة، ميكريس يأتي ببضاعة من الخارج، والآخر ينزل أسعاره.. في النهاية انتصر حسن».

المصور عزت بدوي، يفتخر بقوله: «أنا كوم دكاوي»، ويقول: «كان أهالي كوم الدكة يحتفلون مع محمد البحر درويش ويمشون في شوارعه يرددون أغانيه في يوم ميلاده كل سنة، وأذكر بيت سيد درويش، كانت فيه (مصطبة) عليها قبوة كان يجلس عليها يغني، والناس تجلس أسفل لتسمع له. بيت سيد درويش مهمل وحالته يرثى لها، قبل أن يتحول إلى مزار ومتحف لتراثه».

يوافقه عم تيتي (71 سنة)، يجلس في دكانه الصغير الخالي من البضائع إلا من صور إيمان البحر درويش والشيخ سيد درويش، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «علاقتنا مثل الأهل مع أحفاد سيد درويش، أولاد محمد البحر كلهم يتجمعون كل يوم جمعة أمام منزلهم ويلتف حولهم أهل المنطقة، كلنا نحفظ أغاني كثيرة لسيد درويش، لكن الشباب الجديد لا يعرف شيئا، ولا يعرف أي تاريخ. الحي يزوره أشخاص من لبنان وتونس وسورية من عشاق سيد درويش، كان إيمان يعمل حفلات هنا لكي نحتفل بسيد درويش أمام بيتهم. وحاليا تكون في الأوبرا، وأنا أتذكر يوم أن وصلت سيد مكاوي من المحطة بعربة (حنطور) بـ(شلن)، يوم أن سموا المسرح باسم سيد درويش، وكان بيرم التونسي موجودا وبديع خيري أيضا. ولكن أنا لا أفهم لماذا يوضع تمثال نوبار باشا من الشلالات أمام مسرح سيد درويش؟!».

ويفتخر عم تيتي: «البيوت هنا تحفة وفيها أبواب أثرية، وكل كوم الدكة آثار»، وأتذكر غارات الألمان على الإسكندرية إبان الحرب العالمية الثانية، حيث كانوا يستهدفون المعسكر الإنجليزي هنا على الجبل: «كنا نجري إلى المخبأ نغني مثل الشيخ سيد (سالمة يا سلامة).. رأينا الحرب ورأينا الضرب ورأينا الديناميت بأعيننا».

ويكمل: «كوم الدكة كان في منتهى الجمال لكن السكان الجدد شوهوا المنظر، الكل يبني بالعشرة أدوار، على الرغم من أن الشوارع في كوم الدكة ضيقة. وكانت الناس تحب بعضها. كنا نتبادل الطعام مع الطلاينة، واليونانيين كانوا آخر طيبة ويا ليتهم كانوا معنا هنا للأبد».

أما الحاج عبد البصير السعدني، من أقدم سكان كوم الدكة، فيقول: «كوم الدكة كان لنا فيه ذكريات جميلة، كان الجبل العالي في آخره به حديقة جبلية نلعب فيها، وعليها كان مدفع رمضان، وكان بعض طلاب الفنون الجميلة يأتون ليرسموا البيوت القديمة، كانت قهوة أحمد البربري وقهوة الحاج منعم أحسن مقاهي الإسكندرية، وكانت تجمع ممثلين وفنانين كبارا، وصوروا أفلاما هنا أيضا، ونتذكر الفنانة شادية هنا عندما كانت تصور أحد أفلامها. وكان محمد عبد الوهاب يجلس معه محمد البحر ابن سيد درويش، ويتجمع حولهم أهالي الحي كله».