الفنان اللبناني أندريه كالفيان ينحت ألوانه على تضاريس اللوحة

يسعى إلى إحياء الذاكرة المهملة برسم الأبواب والنوافذ والبيوت العتيقة

لوحات كالفيان تجسد الاشياء التي مر عليها الزمن («الشرق الأوسط»)
TT

واضح شغف الفنان التشكيلي اللبناني أندريه كالفيان بكل ما هو عتيق. لا يمكن تجاهل هذا الشغف في لوحاته التي تحتلها وجوه وأبواب ونوافذ وبيوت قرميدية تراثية، وكرسي مكسورة قاعدته إذا لزم الأمر. حتى البحر في لوحاته أزرقه عتيق وأفقه عتيق. والسر أنه ابن مدينة جبيل (شمال بيروت) المصنفة إحدى أعرق المدن القديمة.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لدي حب لتجسيد الأشياء التي مر عليها الزمن. كأني بذلك أسعى إلى إعادة إحيائها، أو كأني أريد أن أساهم بإنعاش ذاكرة اللبنانيين الذين أخذتهم ظروفهم إلى الاغتراب، فأدعوهم إلى عدم نسيان بلادهم وتراثها. وهذا ما أفعله من خلال المعارض في دول الانتشار اللبناني».

لدى كالفيان المولود عام 1968 ما يقارب 8 آلاف عمل، فقد تفرغ لفنه منذ 28 عاما. يقول إنه لا يرسم إلا ما يحب، لكن ما يحب فيه ما يشبه الهذيان باللون والشكل، والسبب كما يوضح: «لأن العمر قصير بالكاد يتسع لطموحي»، فهو يسابق طموحه، يحاول أن يتجاوزه ليعود ويكرر المشهد ذاته برؤية مختلفة. يدل على ذلك هذا الكم الكبير من اللوحات التي يعرضها متلاصقة على جدار قلعة جبيل التاريخية، كأنه يريد أن يغرق الأنظار فيها، أو كأنها جزء من الأغراض المكدسة في زاوية منسية يجب أن نكتشفها.

من يتأمل لوحاته يحسب أن هذا الفنان يحفظ مدينته عن ظهر قلب. لا يغفل أي تفصيلة أو زاوية، أو يحسب أنه منذ فتح عينيه لم يتوقف عن تصوير مشاهد جبيل ووجوه نساء ورجال وعجائز وشيوخ وبيت وجدران. كأنه في ما يرسم يحرس مدينته وناسها. لا هوية للوجوه والبيوت التي تسكن اللوحات. الهوية الوحيدة هي انتشالهم باللون والبناء التشكيلي من النسيان والرحيل عن الذاكرة.

لوهلة لا يعرف من يقرأ لوحاته إذا كان الخوف المكدس في الإمساك بالأماكن التي يرسمها، هو خوف على المكان الفائق الجمال، أو هو خوف على نفسه التي لا تجد السكينة إلا في اللوحة.

لكن كالفيان يتحدث بجدية وحزم، فالفن لديه ليس موهبة فقط أو طريقا للعمل من خلال الفن، إنما هو رسالة تستحق منه أن يتفرغ لها ولا يستخف بها.

لوحاته تعكس ما يقوله. أكثر من ذلك، لا ريشة في محترفه ولا التزام إلا بقواعد الجمالية الطبيعية. فهو لم يتعلم الرسم في أي جامعة أو معهد. وهو يفضل غرس اللون القوي الراسخ على القماشة التي يكاد الخشب أن ينبثق منها، كذلك تجاعيد الوجوه أو حتى موج البحر، تماما كما يتفجر الماء من الينبوع. يوضح: «السبب يعود إلى التقنيات التي أستعملها في لوحاتي الزيتية. فأنا أرسم بالكاتر (المقص) والدبابيس والمسامير وما إلى هناك من أدوات حادة».

هذه الحدة الطالعة من اللوحة لا تختلف كثيرا عن الحدة الطالعة من ملامحه المكوية بالشمس، فهو عمل لمدة عشر سنوات بأشغال يدوية، معظمها في ورش البناء كي يحصل على مصاريفه. غير أنه، ومنذ طفولته وخلال صباه الغارق في العمل الشاق، كان يحول كل ورقة أو مساحة إلى حقل تجريبي لما تنقله عينه. يحب السباحة والغطس. يعتبر أن مستواه الرياضي مقبول. لكنه لا يقبل أن يكون مستواه الرياضي إلا أكثر بكثير من مقبول. يقول: «أنا من مدينة جبيل. وهي من أجمل مدن المتوسط وأكثرها غنى بالآثار والتراث والعراقة. وأنا محظوظ لأني جبيلي. فهذه المدينة هي أم أبنائها. إلا أن أبناءها هاجروا منها وتركوا بيوتهم وأبوابهم ونوافذهم مغلقة ولم يعودوا، أو هم تركوا بيوتهم في الضيعة وانتقلوا إلى المدينة. أخذتهم المدينة، فحاولت أن أعيدهم إلى حنين الأماكن والبيوت».

لذا يسلط الضوء على الأحياء القديمة. وعندما يرسم هذه البيوت وأبوابها وشبابيكها يتعدى الأمر بالنسبة إليه مفهوم اللوحة. يريد لها أن تصبح واقعا ملموسا، لا سيما أنه بأدواته الحادة يحولها من مساحة مسطحة إلى سطح ينبض بتضاريسه. عمله أشبه بالنحت على اللوحة. الأحمر في لوحاته دليل آخر على الحدة، كأنه يهتف «أنا هنا». أما الأزرق فهو إشارة الرحيل.

ماذا عن الأبواب والنوافذ المقفلة؟ يجيب: «هي مهملة. ظروف أصحابها سيئة. وترميم البيوت التي تعود إليها مكلف وصعب. والأصعب أن معظم هذه البيوت مهجورة مع أنها ثروة ثقافية بهندستها وعمارتها وتاريخها، لذا كان يجب أن ألتفت إليها وأرسمها».

ولا ينفي أن الأبواب والنوافذ موضوع فني عالمي. يقول: «الخشب يعتق في كل مكان بالطريقة نفسها ويتفاعل مع العوامل الطبيعية بشكل مشابه أينما كان». كذلك يعتبر أن من يشوه الدنيا يجب أن يستمع إلى الفنان.

الفنان كما تترجمه أعماله هو الراوي الذي يضع للوجوه المنسية حكايتها، وينبش من الزوال الخشب العتيق والطلاء المقشّر والحديد الصدئ والزجاج المتآكل بالغبار، والعشب المهمل على الحيطان المتروكة والنوافذ المغلقة والجرّة المشققة الفخار، والأدراج التي تآكلت تحت وطأة أقدام المارة منذ مئات السنين، ومصاريع الأبواب المفتوحة على الفراغ أو المغلقة على وحدتها وأحزانها. وكل ذلك بحرفية تذكرنا بالانطباعيين وزمانهم البصري.

ويطيب له أن يبقى للبصر حدوده. ربما لهذا تسود الأبواب والنوافذ المغلقة على تلك المفتوحة على ظلام أو المواربة على المجهول.

لماذا لا تفتح الأبواب؟ يقول: «لماذا أفتحها؟ ومن قال إن من يفتحها سيجد الأمل خلفها؟ أفضل أن أبقيها مغلقة على أسرارها».