مجاهد العزب يرسم مرثية لبشر محبطين.. خلف حوائط الزمن والحياة

في معرضه بأتيليه القاهرة

نماذج من اللوحات المعروضة حيث تبدو ألوان مجاهد متجهمة، تعتمد على تدرجات لونية ساكنة وهادئة («الشرق الأوسط»)
TT

تساؤلات ملتبسة وشائكة حول معاناة الإنسان المعاصر وما يحيط به من ضغوط، يطرحها في متتالية درامية مجاهد العزب في معرضه، الذي أقيم أخيرا بأتيليه القاهرة عبر 18 لوحة استخدم فيها خامة لونية متفردة عبارة عن مزيج من الأحبار والصبغات المائية المعجونة بألوان الزيت. وبطريقة الطباعة يقوم بإنزالها لونا بعد الآخر على مسطح اللوحة القماش، وفقا لتدرجات، وحلول فنية تراعي التوافق بين الألوان الفاتحة والغامقة، والتناغم بين مساحات الثقل والخفة في التكوين.

وبعد أن تجف الخامة يقوم بعملية ترميم للشكل لإنضاجه وإبراز ملامحه دراميا وتشكيليا، مستعينا بأقلام الحبر، وحساسية الأصابع واليد، عوضا عن الفرشاة. ينعكس كل هذا على طبيعة الشخوص في اللوحات، فهي مغبَّرة، مغمضة العينين، منكفئة على ذاتها، خلف حوائط الزمن والحياة، ولا تكاد تظهر ملامحها حتى تنطفئ تحت قبضة واقع مذل مهين. وعلى الرغم من ما تكتنفه هذه الشخوص من توتر وانفعالات، فإنها تأبى أن تنفجر، هي فقط لديها قدرة مقموعة على قول شيء ما. لكن مع ذلك تتعاطف معها، مع سذاجتها وبراءتها الطفولية، سواء كانت رجلا أو امرأة، أو طائرا وحيوانا أليفا.. فيما يبرز الحائط، كحاجز ومقوم بصري ونفسي لإدارة صراع الشخوص مع واقعها وأحلامها وأشواقها المهدرة.

يتناسل هذا الحاجز، في صور ومفارقات فنية لافتة. فأحيانا تتشبث به الشخوص، كحائط صد، يقيها ضربات الزمن والحياة، وقسوة الواقع، وأحيانا تجد نفسها محاصرة خلفه، وفي كلتا الحالتين، لا تتمرد عليه، بل لا تملك القدرة على مواجهته، ومواجهة إحباطاتها وواقعها الإنساني المعتم. ويبلغ الصراع ذروته دراميا حين يتحول الشكل نفسه إلى حائط، تقبع وراءه الشخوص، وتبدو متربصة بذاتها، سلاحها الوحيد هو اللواذ بخوفها وضعفها.. فالحاجز يبرز كفاصل شفيف مراوغ بين رجل يحاول أن يشرئب بنصف وجهه من خلفه، فيما تلتصق على الوجه المقابل للحاجز نفسه صورة لحمامة مجهدة، وكأن ثمة حوارا معطلا بين الاثنين، كلاهما يحاول أن يتشمم رائحته في مسام الحاجز نفسه. وفي لوحة أخرى، يقبع ثلاثة شخوص خلف ثلاثة كراسي، للإيحاء بوهم سلطة معطلة أو مؤجلة، أو مقموعة، ويلعب مجاهد هنا على تيمة المفارقة، فعلى عكس الكراسي الشاغرة ناصعة البياض، تبدو الشخوص وراءها، وكأنها تائهة في ظلها، مطموسة الملامح والرؤى، تنظر إلى الكراسي الثلاثة وكأنها خطوط سميكة، بل وهمية، للتماهي بسلطة فارغة من أي معنى ودلالة.. فهكذا، حيثما تتجه الشخوص في اللوحات، ثمة حائط: في الخطى، في الطريق، في النور، في العتمة، في الداخل والخارج، في الروح والجسد، في البشر والطبيعة.. وهو ما يكسب الحائط معنى فلسفيا، تبدو الحياة من خلاله وكأنها صيرورة لا تنتهي من الحوائط.

ربما لذلك تبدو ألوان مجاهد متجهمة، تعتمد على تدرجات لونية ساكنة وهادئة، مقتصرة على عجائن رمادية، وبنية متربة مشرّبة أحيانا بمسحة من الأصفر والأحمر الخفيف، لكنها مع ذلك لا تخلو من لطشة شاعرية، تسم معمارية الشكل بالحيوية والدفء، وتفتح الباب لما ينطوي عليه من معان ورموز. يعضد ذلك طبيعة النور في اللوحات، فهو نور كسول، له رصانة خاصة، يشع على استحياء كصدى لحركة الظل والكتلة، وينبجس بحنو وبطء من تشققات وخرفشة الطي والفَرد لمسطح الورقة، مكتسبا فعاليته وحركته من عجينة الألوان السميكة الدسمة، كما يلعب في الوقت نفسه، دور الجسر في ربط الكتلة بمعطيات العالم الخارجي، وإنضاج مساحات التظليل والتلوين، وخلق مسام للفراغ، تحرر الشكل من أسر الوقوف في نقطة أو زاوية واحدة، وهو ما يشيع جوا من التنوع، داخل منظومة التعبير والرؤى في اللوحات.