دراسات غربية: استخدام الحاسوب والبرامج الإلكترونية في الطب أمر حتمي

محاولات لتقليص الأخطاء البشرية التي لا فكاك منها وقد تودي بحياة المريض

استخدام الحاسوب والبرامج الطبية الخاصة لم يعد ترفا أو رفاهية (أ.ب)
TT

يعتبر الخطأ البشري «المعقول» جزءا مقبولا لا يتجزأ من منظومة العمل في كل المجالات الحياتية، إلا أن الأمر مختلف بحق فيما يتعلق بالمجال الطبي، فتكلفة الخطأ هنا قد توازي حياة إنسان لا جريرة له سوى الثقة التي وضعها، بملء إرادته ورغما عنه أحيانا، في طبيب أو مؤسسة علاجية.

والأخطاء الطبية هي شكل من أشكال سوء ممارسة المهنة، وهي تصنف ما بين أخطاء بسيطة إلى جسيمة طبقا لمدى التقصير في كفاءة الأداء الطبي، وهو ما لا يرتبط بالضرورة بحجم الضرر الناجم عن الخطأ ذاته. ولو أن هذا التصنيف يتباين ما بين دولة وأخرى حسب القوانين والأعراف، وكمثال لذلك، فإن بعض الدول تعتبر إجراء جراحة لمريض دون الحصول على موافقته الكتابية (أو من ينوب عنه قانونا)، حتى وإن كانت بغرض إنقاذ حياته، يعد خطأ وإهمالا جسيم. في حين أن دولا أخرى تعتبر أن وفاة مريض نتيجة حساسية مفرطة ضد عقار ما استخدم أثناء إجرائه لجراحة في عداد الأخطاء البسيطة، لأنها أمر قدري! وتعد من أوسع الأخطاء الطبية انتشارا أخطاء الوصفات الطبية، التي تمثل نسبتها ما يتراوح بين 18 إلى 56% من إجمالي الأخطاء، فيما يتعرض نحو 5% من إجمالي المرضى حول العالم سنويا لمثل هذه الأخطاء، تبعا لعدة تقارير عالمية من مختلف الدول. وهذه الأخطاء تنجم غالبا عن سهو الطبيب، أو عدم درايته الكافية بالتأثيرات الجانبية للدواء، أو للالتباس الذي قد ينتج عن تشابه في أسماء العقاقير، أو نتيجة استخدام العقار بطريقة أو جرعة خاطئة.. الأمر الذي يسفر سنويا عن 7 آلاف حالة وفاة بالولايات المتحدة وحدها، طبقا لتقرير مؤسسة الطب الأميركية (IOM).

في حين أشار تقرير طبي صادر عن جامعة ميتشغان الأميركية ونشر في الأسبوع الثاني من مارس (آذار) الحالي، إلى أن نحو 16% من المرضى فوق سن الخامسة والستين يتلقون علاجات دوائية «غير مناسبة» لحالاتهم، من حيث التأثير الدوائي أو الجرعة الموصوفة بالنظر إلى معدل أعمارهم، طبقا لدراسة بحثية تم إجراؤها على عينة موسعة شملت بيانات طبية تخص ما يقرب من نصف مليون زيارة لوحدات الطوارئ والعيادات الخارجية ما بين عامي 2000 و2006، تمثل جزءا من إجمالي عدد الزيارات المقدر بـ1.5 مليار زيارة في الفترة ذاتها في الولايات المتحدة الأميركية ككل. ونظرا لما لاحظه المراقبون حول العالم مؤخرا من تزايد عدد الأخطاء الطبية، فقد اهتم العالم أجمع بمحاولة تقليص نسبة هذه الأخطاء إلى حدودها الدنيا، وبخاصة الأخطاء التي يعتقد أن منعها في الإمكان، كتلك التي يلعب السهو فيها دورا رئيسيا، أو الأخطاء الحسابية، أو ضعف الذاكرة. ووفقا لذلك، اتفق تقريران طبيان منفصلان، أحدهما ألماني والآخر أميركي، صادران في العاشر من مارس (آذار) الحالي على نتيجة واحدة مفادها أن استخدام التقنيات الإلكترونية الحديثة أصبح أمرا حتميا للتغلب على الأخطاء الطبية البشرية التي قد تحدث عند وصف العلاجات الدوائية.

وأشار التقرير الأول، الصادر عن مستشفى هايدلبرغ الجامعية الألمانية ونشرته دورية «طب الرعاية الفائقة» (Intensive Care Medicine) المرموقة إلى أن استخدام أحد البرامج الكمبيوترية الحديثة أدى إلى تحسن مستوى الخدمة وخفض حجم الأخطاء الناجمة عن تعاطي عدد من العقاقير المختلفة في آن واحد بوحدة الرعاية الفائقة بالمستشفى.

وأكد البروفسور ثايلو بيرتيشه، مدير وحدة العقاقير الإكلينيكية بالجامعة، أنه من المحال متابعة كل الأعراض الجانبية أو التفاعلات غير المرغوبة أو المنتظرة بين العقاقير المختلفة، حتى مع اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر، وحتى مع أكثر الأطباء خبرة، موضحا أنه في كثير من الأحيان، فإن الأمر قد لا يعود إلى التفاعلات العادية المعتادة بين العقاقير، وإنما إلى تفاعلات فردية غاية في الندرة والخطورة في آن واحد، قد تحدث في قلة من البشر، ولكنها قد تكون قاتلة.

ويشير بيرتيشه إلى أن برنامج «AiDKlinik» الجديد، الذي طوره المستشفى منذ عدة سنوات بالتعاون مع جهات أخرى، يمتلك القدرة على حساب كل التفاعلات الدوائية المختلفة، مع إمكانية تعديل العقاقير المقترحة تبعا لنتائج الفحوصات المخبرية. ومع استخدام البرنامج في وحدة الرعاية الفائقة، انخفضت الأخطاء الناجمة عن التفاعلات غير المرغوبة إلى ما هو أقل من النصف حتى الآن.

وقال البروفسور والتر هافيلي، المدير الطبي للوحدة ذاتها «إذا وضعنا في الاعتبار أن الخطأ في وحدة الرعاية الفائقة قد يودي بحياة المريض ويكون هو الخطأ الأخير بحقه، فإن هذا المعدل يعني إنقاذ حياة عدد مهول من البشر».

وقد تم استخدام البرنامج وتغذيته ببيانات نحو 300 من المرضى بالوحدة، مشتملا العقاقير التي يتناولونها ونتائج فحوصاتهم المخبرية وأي إجراء طبي يتم إجراؤه لهم كرسم القلب أو خلافه، ونجح البرنامج في التنبيه إلى متغيرات طفيفة تحدث لنحو 50% من الحالات المرضية نتيجة التفاعلات الدوائية، مما أدى إلى تغييرها على الفور وتفادي وقوع أحداث جسيمة لهؤلاء المرضى.

على الجانب الآخر، أشار تقرير بحثي ينشر قريبا بدورية الطب الباطني العام «General Internal Medicine» عن دراسة أجريت بجامعة ويل كورنيل بنيويورك الأميركية، إلى تنامي الضرورة الملحة نحو استخدام البرامج الحاسوبية عند إعطاء الوصفات الطبية للمرضى، مشيرا إلى أن مثل ذلك الاستخدام قد قلص من عدد الأخطاء الطبية العفوية إلى سبع حجمها المعتاد.

وتوضح الدراسة أن عدد الأدوية الموصوفة والمنصرفة في الزيارات الطبية المعتادة في الولايات المتحدة يتعدى المليارين ونصف المليار دواء، الأمر الذي يشير إلى أن نسبة خطأ قد تكون مهولة مهما صغر رقمها.

وبحسب البروفسور رينيو كوشال، أستاذ الأمراض الباطنية المشرف على الدراسة، فإن «العقل البشري لا يستطيع أن يتحمل عبء الاحتفاظ بمعلومات كافية عن كل هذا الكم من العقاقير بتفاعلاتها وتأثيراتها المختلفة، بالإضافة إلى كل المعلومات المتاحة عن المريض ذاته. كما أن (التصاق) الأطباء بكم محدود من العقاقير التي يحفظون تأثيرها عن ظهر قلب، قد يحرم المرضى من الحصول على أدوية قد تكون أكثر فائدة، وعلى ذلك فإن العون الإلكتروني هو الوحيد المتاح في نظري مستقبلا».

وقام الباحثون بتطبيق معايير علمية بحته في بحثهم، إذ قارنوا نتائج مجموعة من الأطباء الذين يستخدمون الحواسيب في عملهم الطبي، بمجموعة مساوية لهم عددا وعلما لا يستخدمونها، على مستوى منطقة وادي هدسون بولاية نيويورك الأميركية على مدار ثلاثة أعوام، دارسين عدد الأخطاء التي حدثت في الوصفات العلاجية في كل الحالات. وكانت النتيجة التي توصلوا إليها أن عدد الأخطاء لدى الأطباء الذين لا يعتمدون على الحواسيب يبلغ سبعة أضعاف أولئك الذين يستخدمونها.

ويختتم كوشال حديثه مؤكدا أن «استخدام الحاسوب والبرامج الطبية الخاصة لم يعد ترفا أو رفاهية، فالعلم يتقدم بخطى بالغة السرعة، والعقل البشري لا يستطيع بحال ملاحقة هذا التقدم دونما معونة إلكترونية».