العالم يحتفل بمرور 200 عام على مولد شوبان «شاعر البيانو»

ثوري ولاجئ سياسي ومحب من أرفع طراز

إحدى صالات عرض متحف عازف البيانو الشهير فريدريك شوبان في وارسو (أ.ب)
TT

على الرغم من أنه لم يعش أكثر من 39 عاما فقط معظمها خارج موطنه الأم بولندا، فإن الموسيقار العالمي شوبان يعتبر إرثا ثقافيا بولنديا شعبيا ورسميا، من دون جدال، وقد أثر شغفه واهتمامه بالأحوال السياسية البولندية ومعاناة البولنديين من السيطرة الروسية، التي عاناها معهم على الرغم من أنه كان يعيش بعيدا في العاصمة الفرنسية باريس حيث رحل ولم يتمكن من العودة حتى وفاته، في تأليفه لأروع القطع الموسيقية التي تموج ثورية ووطنية حتى وقتنا هذا.

ولد فردريك شوبان بقرية زيلازوفا فولا على بعد 46 كيلومترا من وارسو، لأب فرنسي وأم بولندية من الطبقة الوسطى المثقفة سياسيا وثقافيا وقد كانت والدته عازفة جيدة على البيانو وكذلك شقيقته وعلى عزفهما تفتحت عيناه وشب وتدرب ليصبح عازف البيانو الأول عالميا.

ما إن بلغ شوبان الرابعة من عمره حتى ظهرت مواهبه الموسيقية تماما بل تفوق في دراسته وحصصه الموسيقية حتى على معلميه. وفي الثامنة من عمره قاد بمفرده حفلا موسيقيا خيريا مما أكد عبقريته كعازف بيانو لا يعلى عليه. وقد تأثرت معزوفاته كثيرا بالظروف السياسية والتاريخية التي مرت بها بلاده مما جعل البولنديين يؤرخون لكثير من مقطوعاته التي تقطر وتنبض ثورية ووطنية كإرث بولندي شعبي يعكس بعمق معاناة بولندا والقلاقل السياسية التي مرت بها في أكثر من فترة بسبب العراك السياسي مع روسيا، ولم يسلم إرث شوبان الموسيقي والثقافي من العدوان النازي الذي سعى بقوة إلى تحطيم كل إرث ثقافي بولندي.

وكان شوبان قد اضطر وهو في العشرين من عمره إلى أن يغادر بولندا مؤملا في زيارة إيطاليا للاحتكاك قليلا بحياتها الثقافية لكنه لتدهور الأحوال في بولندا وإصراره على رفض نيل جواز سفر روسي لم يسمح له بالعودة مطلقا فتنقل ما بين ألمانيا والنمسا حيث احتفت به فيينا واستفاد طيلة 8 أشهر من زخمها الموسيقي ثم واصل ترحاله ليعيش بقية حياته في باريس ويموت فيها حيث لا يزال رفات جثمانه هناك في مقابر بيري لاشيز، بينما تم نقل قلبه عام 1849 حيث لا يزال محفوظا داخل محلول كحولي طبي بكنيسة الصليب المقدس بوارسو. هذا وبينما تنشط كل من باريس وفيينا وبرلين هذا العام في إقامة المعارض والحفلات الموسيقية وتقديم البرامج التاريخية والمسرحيات للاحتفال بذكرى شوبان الذي تعتبره هذه المدن من مواطنيها جنبا إلى جنب وارسو، فإن مدنا أخرى في مختلف أنحاء العالم تدلو بدلوها لتخليد هذا العام (عام شوبان) احتفاء بمرور 200 عام على مولده حيث تم الإعلان عن أكثر من حفل موسيقي ضخم لتخليد موسيقاه يشارك فيها عدد من عمالقة الموسيقى وكبار الفرق العالمية في مقدمتها «وارسو فيلهارمونيكا»، بالإضافة إلى مسابقات وماراثونات موسيقية مفتوحة للهواة ممن يعشقون معزوفات شوبان.

من جانب آخر، ضمت الاحتفالات افتتاح مركز ثقافي خاص عن شوبان بوارسو بالإضافة إلى تجديد متحفه، ومعلوم أن العام سيشهد ضمن احتفالاته «الكونغرس الشوباني» الثالث وكان التجمع الأول تحت هذا المسمى قد أقيم عام 1949 بينما تم تنظيم الثاني عام 1999 ويتوقع أن يتم فيه بحث حصيلة استعدادات ودراسات تواصلت لمدة 11 عاما عن موسيقى شوبان بالإضافة إلى ذلك هناك الدورة 16 للمسابقة العالمية لموسيقى شوبان التي ظلت تعقد كل 5 أعوام.

وتشير بعض المصادر إلى أن أكثر من 1300 حفل موسيقي سيشهدها العالم من النرويج حتى فلوريدا ونيويورك وشنغهاي وفيينا وباريس ستتواصل عروضها طيلة العام، كان من بينها التجمع الموسيقي المفتوح الذي انتظم بنيويورك بمباني المركز العالمي المالي الذي قدم أكثر من 150 عازف بيانو عزفوا لنحو 200 ساعة مختارات من موسيقى شوبان بالتناوب على 4 آلات بيانو.

وفي لفتة موسيقية تعليمية هي الأولى من نوعها قامت وارسو بتشييد 15 من المقاعد المرمرية الموسيقية تم توزيعها في مناطق وأحياء ارتبطت بحياة شوبان حيثما سكن ودرس بما في ذلك (كنبة) تم نصبها أمام المنزل الذي أقامت به شقيقته الكبرى لودفيكا، التي أحبها وطلب حضورها وهو يحتضر وكانت قد جمعت كل ممتلكاته بما في ذلك بقايا حطام البيانو الذي تعلم من خلاله أول قواعد العزف ورماه الجنود السوفييت من نافذة من الطابق الثاني ليتدمر ويتكسر ظنا أن تدميره سوف ينسي البولنديين موسيقى شوبان التي يعتبرونها جزءا من تراثهم الشعبي. هذا ومع إطلالة الربيع وروعة الطقس ازدادت شعبية هذه المقاعد الفنية السياحية التي بالضغط على زر منها يمكن للمرء سماع جزء من تاريخ حياة شوبان. وبالضغط على زر آخر تنساب مقاطع لمعزوفة من معزوفاته. وتؤكد تقارير صحافية أن هذه المقاعد أصبحت مراكز تجمع رومانسية لقطاعات من الشبيبة البولندية ممن يتحلقون لسماع مختارات من الفالس والبولينيز وكثير من الأغاني البولندية الخفيفة التي ألفها شوبان.

هذا وتعمل المقاعد وفق نظام تقني إلكتروني عالي الدقة معتمدة على بطاريات كان من المقرر تغييرها كل شهر إلا أن الشعبية التي اكتسبتها والرواج الذي وجدته قصر من تلك الفترة الزمنية بصورة ملحوظة.

في سياق مواز يحكي البولنديون الكثير عن محبوبهم شوبان الذي تمتع، على الرغم من قصر حياته وعلى الرغم من كثرة اعتلال صحته بسبب ضعف في صدره، بالوسامة وحب النساء ورفقتهن خاصة وقد عرف عنه حب المرح والفكاهة حتى عنه شخصيا وذلك على الرغم من لمحات من الخجل وغلبة الهموم بسبب أوضاع بلاده السياسية. ولا نخطئ إن قلنا إن شوبان قد مارس وعرف حياة اللجوء السياسي حيث عاش في باريس محاطا بمواطنيه ممن فروا من بولندا بسبب الغزو الروسي.

من جانب آخر، لم تحل اهتمامات شوبان ومتابعته لما كان يحدث في بلاده من دون الانصهار والتعايش مع الحياة الأرستقراطية للمجتمع الباريسي متنقلا من حفل موسيقي إلى آخر خاصة في الفترة من 1838 حيث وطد علاقته الغرامية بالكاتبة الفرنسية المتحررة أماندين دربان، أو جورج ساند، التي وفرت له صحبتها سنوات مرح وهيام وإن كانت كثرة الانتقال والترحال قد أثرت على صحته الضعيفة أصلا فزاد إحساسه بضيق التنفس وأمراض الصدر حتى مات مسلولا وحوله جمع من صحبته ومحبيه عدا جورج ساند التي لم تحضر حتى جنازته إذ كانا قد افترقا قبل وفاته بأكثر من عامين.

تميزت مقطوعات شوبان التي عزفها معتمدا على البيانو كآلة رئيسية بالكثير من الثورية والخفة مما ميز كثيرا من مقطوعاته عن غيرها من المقطوعات الكلاسيكية التي ألفها رصفاؤه من عمالقة الموسيقيين كموتزارت وباخ وبيتهوفن مثلا. وذلك مما جعل موسيقى شوبان أكثر قربا للحداثة والمعاصرة مما ساعد بدوره على قبولها وانتشارها بصورة أكثر وضوحا خارج أوروبا بين كثير من الشعوب بما في ذلك شعوب أسيوية وأخرى أفريقية.

أما داخل بولندا كما سبق الذكر فقد اعتبرت موسيقاه موروثا شعبيا وطنيا وكفاحيا ونضاليا، وذلك على الرغم مما جابهته من تضييق وحظر من قبل الروس والنازيين الذين كان هدفهم تدمير تراث الشعب البولندي، وفي سبيل ذلك حاربوا كل من نادى بحرية بولندا وقوميتها ولذلك دمروا تمثالا ضخما لشوبان وأزالوه تماما من موقعه في ميدان لازيكي الملكي مما دفع البولنديين إلى إعادة بنائه ما إن انتهت سنوات الحرب بل أصبح تقليدا أن يشهد هذا الموقع حفلا موسيقيا في الهواء الطلق عصر كل يوم أحد بدءا من شهر أبريل (نيسان) وحتى نهاية سبتمبر (أيلول).

ألف شوبان الكثير من الافتتاحيات في مقدمتها الافتتاحية «24» التي لا تزال المفضلة في الحفلات الرسمية حتى لقبت بـ«ملكة الافتتاحيات». كما ألف أشهر المقطوعات الرومانسية الخفيفة الراقصة في مقدمتها: «16 من polonaisis البولينيز»، و«61 من mazurkas المازوركاز»، و«26 من preludes البرولدييز»، و«27 etudes إيتوديز»، و«21 nocturnes نوكتورنيز»، و«3 sonatas سونايتاز»، و«20 من الفالس».

من جانب آخر، قاده حبه لبلاده وإحساسه بمعاناتها إلى تأليف المارش الجنائزي والكثير من القطع الموسيقية البولندية الشعبية بنغمات ميزته. في ذات الوقت عكست مقطوعاته ومعزوفاته من الفالس والباليه والمازوركا بجانب الليليات ذات المسحات الرومانسية، خفة روحه وروعة كل نغمة من نغماته التي جمعت بين التراجيديا والدراما وقد أشار البعض إلى أن مقطوعة واحدة من مقطوعاته مثل «المينور سوناتا» تختصر الحياة في دقيقتين وتنتقل بالمتلقي ما بين البكاء والمرح والرغبة في الرقص والكمون في هدوء تام، إنها باختصار تدفع إلى فعل كل شيء، وتلك المهارة وهذا الإبداع هما اللذان أكسبا شوبان لقب أشهر عازف لآلة البيانو على الإطلاق والأمهر في طريقة التلاعب بأصابعه والنقر بها فكان يعزف وكأنه يكتب حتى لقب بـ«شاعر البيانو»، وقد ألف - من دون شك - البديع من المقطوعات الموسيقية الدافقة في تناغم وتنافر بين ألحان مرحة فرحة وأخرى حزينة مهمومة مغمومة لكنها مؤثرة ثرية.

بقي أن نقول إن أسرة شوبان كانت تحتفل بعيد ميلاده في الأول من مارس (آذار)، بينما تؤرخ الأوراق الرسمية ليوم ميلاده بتاريخ 22 فبراير (شباط).