فرنسيات في أول تشكيل للألعاب البهلوانية في الجو

كارلا ساركوزي ترتدي زي طيار مقاتل بمناسبة اختيارها عرابة «سرب فرنسا»

تلقت كارلا من القائدة فيرجيني هدية، هي عبارة عن دبوس يشبك على الصدر على هيئة قلب، وهو شعار «سرب فرنسا»
TT

خلال عملها كعارضة أزياء في السابق، أُتيح للفرنسية الأُولى أن تجرب أرقى الثياب وأغلى الفساتين وأجملها، لكنها عاشت، نهار الجمعة الماضي، تجربة استثنائية وهي تحضر استعراضا جويا أُقيم في جنوب فرنسا. لقد ارتدت كارلا بروني ساركوزي بذلة الطيارين العسكريين، التي تحمل علامة الجيش الفرنسي، وذلك باعتبارها العرابة الجديدة لـ«سرب فرنسا»، وهو تشكيلة من الطائرات النفاثة، التي تقدم ألعابا بهلوانية في الجو. وبينما كان طيارو السرب يؤدون استعراضهم، وصلتهم رسالة تحية صوتية من كارلا، قالت لهم فيها: «أود أن أُهنئكم وأقول لكم: كم كان العرض مدهشا... برافو».

وجاء الرد بصوت أُنثوي ناعم، هو صوت قائدة الطيارة فيرجيني غويو، أول امرأة تتولى قيادة «سرب فرنسا». وأرسلت فيرجيني من الراديو اللاسلكي لطائرتها «الألفاجيت» عبارة شكر إلى قرينة الرئيس، لأنها وافقت على أن تكون عرابة فرقة الطيران الشهيرة التي اعتاد الباريسيون أن يشاهدوا ألعاب طائراتها وهي تنفث الألوان الثلاثية للعلم الفرنسي في سماء جادة «الشانزليزيه» عند الاحتفال باليوم الوطني كل صيف. وعندما انتهى الاستعراض وترجل الطيارون، قالت كارلا لفيرجيني إن قلبها كاد يقفز من صدرها وهي تتفرج على الألعاب الجوية الخطيرة. وأضافت أن العرض كان جميلا ودقيقا ومبتكرا وكأنه رقصة «باليه».

وبرشاقتها المعهودة، تسلقت كارلا بروني طائرة الكابتن فيرجيني غويو وجلست في مقعد القيادة من دون أن تجرؤ على لمس أي زر أو عتلة. وأحاط بالفرنسية الأُولى أفراد الدورية ليلتقطوا صورة تذكارية مع عرابتهم الجديدة، بحضور النجم التلفزيوني ميشال دروكير وفريق التصوير الخاص به لإعداد حلقة من برنامجه مخصصة للاحتفال بتأسيس سرب فرنسا، ومن المنتظر أن يجري بثها في 13 يونيو (حزيران) المقبل. وهناك تواطؤ من نوع خاص وحميم بين دروكير وهذا السرب لأنه كان، بدوره، عرابا له قبل 20 عاما. وطبعا، كان مقدم برامج المنوعات الأشهر في فرنسا يتمنى لو تمكن من تصوير مدام ساركوزي وهي تحلق على متن الطائرة المقاتلة. لكن تأخرها في إجراء الفحوص الطبية اللازمة منعها من المغامرة، واكتفت بأن وعدت أفراد السرب بأنها ستعود، قريبا، لتطير معهم.

وقبل مغادرتها المنطقة، تلقت كارلا من القائدة فيرجيني هدية هي عبارة عن دبوس يشبك على الصدر على هيئة قلب، وهو شعار «سرب فرنسا». وفرحت بالهدية قائلة إنها ستتباهى بها أمام زوجها الرئيس، ثم علقتها على صدر بذلة الطيران التي فصلّت خصيصا لها من قماش سماوي. وكان برفقة الفرنسية الأُولى الجنرال جان بول بالوميروس، رئيس أركان سلاح الجو، الذي أسعده أن تصبح كارلا عرابة للسرب الذي أسلم قيادته لامرأة، أخيرا. وكان عدد من المشاهير قد سبقوا كارلا ساركوزي في منصب العراب، منهم آلبير أمير موناكو، وعضو اللجنة الأُولمبية الدولية جان كلود كيلي، وبطل الجودو دافيد دوييه، وهذا الأخير هو الوحيد الذي لم يحلق على متن إحدى طائرات السرب بسبب وزنه الثقيل.

وبفضل شهرة «سرب فرنسا»، المؤلف من عدد من الطيارين العسكريين المحترفين من ذوي التدريب العالي، ظهرت في عدد من الدول الأُوروبية دوريات خاصة، خارج مؤسسات الجيش، تتألف من فرق يتراوح عدد أفرادها بين ثلاثة إلى ثمانية، تقوم طائراتها بألعاب بهلوانية أثناء التحليق في خطوط متناظرة ومتقاطعة، حيث تقترب الواحدة من الأخرى بشكل يوحي بأنها على وشك التصادم، لكنها تتباعد في اللحظة الأخيرة بعد أن يكون المتفرجون قد حبسوا أنفاسهم على الأرض. ويبلغ عدد هذه الفرق الخاصة 8، بينها 3 في فرنسا وحدها، وأحدثها وأكثرها تميزا تحمل اسم «السرب الصارم» ويتألف من النساء فقط. فلأول مرة، تقدم المرأة على ممارسة عمل من هذا النوع الخطير والمثير. وقد جرى التعاقد مع أربع فرنسيات، يتولى تدريبهن طيارون عسكريون سابقون، بهدف تشكيل أول سرب في العالم للنساء الطائرات في تشكيلات بهلوانية.

يتألف السرب من طيارتين شقراوين وطيارتين سمراوين. والأربع جميلات بشكل لافت. وهن يتدربن بمتعة على طائرات خفيفة ذات محرك واحد من نوع «باك 45» حمراء اللون، تتميز بالمروحة الكبيرة المثبتة في مقدمتها، أمام الكابينة الشفافة التي يجلس فيها القائد وتشبه في شكلها طائرات الأفلام الحربية القديمة. أما التدريب فيجري في قاعدة جوية تقع في مدينة «أفينيون» وسط فرنسا، ويشرف على تحضير كل طلعة تدريبية طياران متقاعدان هما «تشاك» و«بيلو»، سبق لهما العمل في الطيران الحربي. ويستغرق تحضير كل طلعة قرابة الساعتين، إذ إن رسم مسارات الطائرات يتم على الأرض، قبل أن يأخذ مداه في الأفق. وأصعب ما في هذه العملية، السيطرة على شاشات قياس السرعة والاتجاه، ولهذا فإن التحضير يعتبر مرحلة شديدة الأهمية، حسبما تقول جنيفر روجرز، وهي فرنسية من أصل أميركي تعلقت بهواية الطيران منذ سن الطفولة.

يتم التحليق بطائرتين وأحيانا بثلاث أو أربع. وتتباعد الطائرات ثم تتلاقى أو تتقاطع أو تدور حول نفسها في تقلبات جميلة ومدروسة، وكأنها فراشات تحلق في ربيع أخضر، أو كأنها طائرات ورقية تتراقص مع الريح عندما يرخي لها الأطفال الخيوط. لكن من يحترف الطيران يدرك أن المغامرة ليست بتلك السهولة، لأن كل واحدة من المتدربات تعرف أن أقل سهو أو خطأ في الحسابات يمكن أن يؤدي إلى مأساة. ويقول المدرب جاك لوك بيري الملقب بـ«تشاك» إن الأخطاء في مهن أخرى، أو رياضات أخرى، لا تقود إلى الموت. أما في مهنة مثل الطيران فإنها في معظم الأحيان قاتلة.

سبق هذا السرب النسائي دخول كارلا ساركوزي إلى الحلبة. وتعود فكرة تشكيله إلى الطيار ديدييه بوكاريل، وهو يمارس هذا النوع من الألعاب البهلوانية في الجو منذ 23 عاما ويقول: «أردت أن أقدم شيئا جديدا، وفكرت بتشكيل سرب من الشباب، لأن أغلب من يمارسون هذا العمل هم من قدامى المتقاعدين في سلك الطيران الحربي، وكذلك لأن إتقان هذا النوع من الألعاب الجوية يحتاج إلى تدريبات لا تقل عن عشر سنوات. ثم طرأت على بالي أن يكون الفريق الشاب من النساء فقط. وهي فكرة تجتذب المتفرجين وتشكل إضافة حقيقية لهذه الهواية».

في عام 2003، بدأ بوكاريل بإجراء اختبارات على فتيات تقدمن للمغامرة. ومن مجموع خمسين متقدمة لم يتبق سوى خمس، أولاهن باتريسيا غراندان، وهي الأكبر سنا، وكانت مضيفة جوية سابقة وتقود طيارة مدنية في شركة للطيران في أميركا الجنوبية. لكن الشركة أعلنت إفلاسها وفقدت باتريسيا عملها، وهي كانت بصدد البحث عن عمل عندما قرأت إعلانا عن سرب النساء المزمع تشكيله. وفورا، جاءت من جنوب أميركا لتلتحق بهذا العمل. وهي كانت قد تدربت على الطيران وهي طفلة في الثالثة، عندما كانت تجلس في حضن أبيها وهو يقود طائرة قديمة من نوع «بيبر أزنيك». وبفضل أقدميتها في المهنة فإن زميلاتها أطلقن عليها اسم «مامي نوفا»، وذلك في إشارة إلى جدة فرنسية شهيرة تتصدر صورها علب الألبان.

يشمل التدريب رياضات تتم ممارستها على الأرض، مثل استكشاف المغارات والكهوف المظلمة، والتجديف في التيارات المائية والأنهار المتدفقة، وقيادة الدراجات في أراض وعرة. وتأتي فوائد هذه التمارين من احتمال هبوط الطائرة اضطراريا في أماكن بعيدة عن العمران. لكنها تتطلب أجساما قوية ومتناسقة، من دون اشتراط أن تكون بمواصفات الدمية «باربي» أو عارضات الأزياء. وهناك أيضا العمل الإداري الممل، إذ يتطلب الطيران من الفتيات ملء استمارات قبل الطلعات وبعدها، وتقديم تقارير يومية عن مسيرة التدريب إلى ديدييه بوكاريل، المشرف على السرب.

كان على بوكاريل أن يلف العالم لكي يقتني طائرات التدريب من نوع «باك»، وهي طائرات روسية أسطورية، عثر عليها في أميركا وإيطاليا وروسيا، إلى أن جمع خمسا منها ودفع 200 ألف يورو مقابل كل واحدة منها. ولكن ما الذي يستهوي الفتيات في قيادة هذه الطائرات القديمة وركوب هذا النوع من المغامرة، التي تتطلب كل هذه التدريبات الشاقة؟ إنهن يجبن بصوت واحد: «نريد تقديم استعراضات جوية يحبها الناس». وتأخذ أماندين الحديث فتقول: «في السابق، لم يكن الطيارون يقومون بهذا النوع من الألعاب البهلوانية بهدف عرض مهاراتهم في الطيران، بل كان الهدف التواصل مع الجمهور، الذي يقف على الأرض يتفرج عليهم، والرؤوس كلها مرفوعة إلى أعلى، والأعصاب متوترة. إنها مهنة تجعل الشباب ينبهرون ويحلمون بأن يتمكنوا ذات يوم من أن يحلقوا كالطيور، بملء الحرية». ألم يكن ذلك الحلم هو ذاته الذي طاف ببال عباس بن فرناس، ذلك العالم والفيلسوف والمغامر العربي، الذي أراد أن يحلق مثل الطير وصنع لنفسه جناحين وكسا جسمه بالريش ثم قفز في واد وسقط على ظهره، لأنه نسي أن يصنع لنفسه ذنبا؟