المصريون يستعيدون عبقهم الفرعوني بالاحتفال بشم النسيم

يستقبلونه بأغنية السندريلا وموائد الفسيخ والسمك في الهواء الطلق

رغم أن الاحتفال بمناسبة «شم النسيم» موجود في شرق العالم وغربه، وله طقوس مختلفة، فإن تلك الطقوس في مصر واحدة منذ عهد الفراعنة («الشرق الأوسط»)
TT

على نغمات أغنية سندريلا السينما الفنانة الراحلة سعاد حسني «الدنيا ربيع والجو بديع قفلّي على كل المواضيع» يستقبل المصريون صباح اليوم (الاثنين) نسمات عيد الربيع «شم النسيم»، ويتلمسون في أجوائه عبق تاريخهم الفرعوني العريق، حيث كان المصريون القدماء يحتفلون بهذا العيد على مدار عدة أيام.

ولشم النسيم في مصر طقوس مميزة، ففي الصباح الباكر من هذا اليوم تخرج الأسر المصرية إلى المتنزهات وشاطئ النيل للاستمتاع بالخضرة والجو الذي تخلص من برودته، كما تحرص الأسر المصرية في ذلك اليوم على تناول الأسماك المملحة والمدخنة، وأشهرها الفسيخ والسردين والرنجة والملوحة، رغم التحذيرات السنوية من أضرار صحية خاصة بالنسبة لمرضى الضغط.

ويقول الدكتور عبد الحليم نور الدين، أستاذ الآثار الفرعونية بكلية الآثار جامعة القاهرة، الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار «من الصعب تحديد متى بدأ الاحتفال بشم النسيم في مصر الفرعونية، خاصة أنه لم يكن هناك يوم محدد للاحتفال بشم النسيم الذي كان يمثل انتهاء فصل الشتاء وبداية فصل الربيع». وأضاف «المصري القديم كان يحتفل بهذا العيد على مدار عدة أيام، حيث كان هذا العيد يمثل تجدد الخضرة بعد فترة تساقط طوال فصلي الخريف والشتاء، وما كان يعنيه له من تجدد للحياة». وأوضح أن المصري القديم استلهم فكرة البعث بعد الموت من مجيء الربيع بعد الشتاء وشروق الشمس بعد غروبها وفيضان النيل بعد جفافه.

وأوضح نور الدين أن الفراعنة لم يسجلوا شيئا في معابدهم حول شم النسيم أو طرق الاحتفال به، إلا أنهم دونوا ذلك في النصوص التي عثر عليها في المقابر. وأشار إلى أن النصوص الفرعونية تقول إنه في ذلك اليوم كان المصري القديم يخرج إلى المتنزهات مع أسرته ويركب المراكب في النيل ويلعب الأطفال في الحدائق التي اخضرت بعد تساقط أوراقها طوال الشتاء.

ويؤكد نور الدين أن الاحتفال بهذا اليوم تجاوز الارتباط بأي ديانة، على عكس الشائع من ارتباطه بالديانة المسيحية، وقال «هذا اليوم احتفل به الفراعنة، وعندما دخلت المسيحية مصر واصل المصريون الاحتفال بهذا اليوم، واستمر الأمر كذلك بعد الفتح الإسلامي لمصر».

ونفى نور الدين صحة ربط البعض شم النسيم بأعياد المسيحيين في مصر، وقال «السبب في ذلك أنه عندما دخلت المسيحية مصر كان المصريون يحتفلون بهذا العيد، وعندما رأوا أن هذا العيد يتعارض مع صيام المسيحيين قرروا تأجيله إلى بعد إفطارهم ليشاركوهم الاحتفال بالعيد، وأصبحوا يحتفلون بالعيد ثاني يوم احتفال المسيحيين بعيد القيامة المجيد، وهو ما يعكس الوحدة الوطنية في مصر والتسامح منذ قديم الأزل، وأن المصريين كلهم نسيج واحد».

ويوضح نور الدين أن الاحتفال بشم النسيم في مصر الفرعونية كانت له بعض الطقوس، بعضها اجتماعي مثل التزاور بين الأسر والحرص على التواصل الاجتماعي، كذلك كان المصري القديم يحرص على تناول بعض الأطعمة مثل «الخس» لأنه رمز الإخصاب، وثبت علميا فيما بعد أن زيت الخس يساعد على زيادة معدل الخصوبة، كما أنه كان رمزا للإله «مين» إله الإخصاب عند المصريين القدماء، والبصل لاعتقادهم في قدرته على طرد الأرواح الشريرة، ولما فيه من قيم غذائية مرتفعة، والبيض لأنه رمز للتكاثر وتجدد الحياة.

وقال «كان المصريون القدماء يتناولون أيضا الأسماك المملحة كالفسيخ والملوحة، ربما لاعتقادهم أن الأسماك رمز للتكاثر، بالإضافة إلى أنها تأتي من النيل الذي يمثل لهم شريان الحياة والذي قدسوه ورمزوا له بالإله حابي، كما أن تناول الأسماك وهي مملحة يذكر بأسطورة أوزوريس، طبقا للمعتقدات الفرعونية».

ورغم أن الاحتفال بعيد «شم النسيم» موجود في شرق العالم وغربه، وله طقوس مختلفة ويتم الاحتفال به تحت أسماء مختلفة، فإن تلك الطقوس في مصر واحدة منذ عهد الفراعنة، لم تتغير، بل إنه يكاد يكون العيد الوحيد الذي يحتفل به المصريون بطريقة واحدة، على اختلاف دياناتهم، فأعياد المسلمين لها طقوسها وأعياد المسيحيين لها طقوسها، إلا أن المسلمين والمسيحيين في مصر يحتفلون بشم النسيم بطريقة واحدة، ويتناولون الطعام نفسه.

أما عن وجه شم النسيم الآخر فيقول عنه الدكتور عبد الهادي مصباح، أستاذ الميكروبيولوجي والمناعة بجامعة الأزهر، إن الأسماك المملحة نوعان، منها الثقيل الملح، ومنها الخفيف، مشيرا إلى أن خطورة عملية التمليح تكمن في أن الملح الزائد فيها يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، بالإضافة إلى أنه يسبب عدة مضاعفات لمرضى القلب والجهاز الهضمي، وكذلك الأسماك قليلة التمليح تكمن خطورتها في أن التمليح القليل يسمح بتكاثر بعض أنواع البكتريا اللاهوائية التي تفسد السمك وتفرز أنواعا من السموم الشديدة الخطورة والتي قد تؤدي إلى التسمم.

ويضيف د.مصباح أن الأسماك المدخنة أيضا لها التأثير نفسه، مؤكدا خطأ الاعتقاد السائد بأن التسخين المباشر لها يقتل البكتيريا والميكروبات.

وينصح د.مصباح بتناول كميات قليلة من هذه الأسماك، مع شرب كميات كبيرة من الماء وأكل الخضراوات، وشراء هذه الأسماك من مصدر موثوق به.

ورغم تلك التحذيرات التي تتكرر كل عام، فإن الأسر المصرية لا تتوقف عن شراء وتناول الأسماك المملحة بأنواعها، بل إن المحلات التي تبيع تلك المنتجات أصبحت تتفنن في طرق تقديمها وأنواعها، بل هناك بعض المحلات يصل سعر الكيلوغرام الواحد من الفسيخ فيها إلى 80 جنيها، والكيلوغرام الواحد من الرنجة إلى 60 جنيها، والكيلوغرام الواحد من بطارخ الأسماك المملحة إلى 240 جنيها. في حين أن أسعارها في المحلات الشعبية أقل بكثير من ذلك.

ورغم كل تلك التحذيرات وزيادة أسعار الأسماك المملحة، إلا أن الإقبال على تلك المنتجات يزداد مع اقتراب شم النسيم، فنجد أن المصريين اصطفوا في طوابير أمام تلك المحلات.

«لا نشعر بشم النسيم إلا بتناول الأسماك المملحة، فهي مناسبة تأتي من العام للعام مرة واحدة»، هكذا بررت نادية عز الدين، ربة منزل مصرية، رغبتها في شراء أسماك مملحة، موضحة أنها تحرص على تنظيف الأسماك بنفسها في بيتها، وتقديمها لزوجها وأبنائها بعد وضعها في كمية من الزيت والليمون لفترة لتخفيف أضرارها.

أما عبد العزيز إبراهيم، وهو محاسب، فقد وقف 15 دقيقة أمام محل لبيع الأسماك المملحة في وسط القاهرة ليحصل على طلبه، فيقول «نعم أعلم أضرار الأسماك المملحة، ولكني أشتريها من أجل أولادي، فأنا لا أستطيع تناولها لأني مريض بالضغط، وتناول تلك الأسماك يضرني».

ويوضح إبراهيم شاهين، مدير أشهر محلات الأسماك المملحة بوسط القاهرة، أن شم النسيم هو موسم بالنسبة له، بالإضافة إلى عيد الفطر المبارك، الذي يحب المصريون فيه تناول الأسماك المملحة. ويقول «الموسم يبلغ ذروته قبل يوم شم النسيم بيومين، وفي هذه الأيام يرتفع سعر البضاعة إلى أعلى مستوياتها، نظرا للإقبال الشديد عليها».

وأكد شاهين أن نوعية الأسماك هي الفرق بين محل وأخر، وقال «الزبون يقبل على المحل الذي يثق فيه، وهذه الثقة لا تأتي من فراغ، بل من الحرص على تقديم أفضل المنتجات، حتى وإن كان سعرها مرتفعا بعض الشيء».

وتعلن المنتجعات والمصايف والمتنزهات العامة والحدائق بخاصة في المدن الساحلية حالة الطوارئ، استعدادا لهذا اليوم، حيث يتوافد عليها الآلاف من المصريين للاستمتاع بشم النسيم، وسط الخضرة ومنظر البحر والهواء المنعش.