باريس ترد الجميل للمنسي إيزيس بيدرماناس

اعتبر أحد أهم من وثق حياة المدينة وأهلها من غير النجوم في القرن العشرين

عدسة بيدرماناس بقدر ما نقلته إلى العلن، نقلت معه واقع أبناء وسكان الضواحي الباريسية الفقيرة
TT

دأبت بلدية باريس منذ نحو عقد، على إقامة معارض فنية، تكرم من خلالها فنانين فرنسيين وأجانب عاشوا فيها. هؤلاء، بشكل أو بآخر، صنعوا مجدهم من خلالها، وأضافوا إلى مجد باريس الأساسي، المدينة التي بنيت من الحلم والتي وفرت الأحلام لكل من طلبها عبر زمنها، والتي كانت فسحة لإنتاج الإبداع بمختلف أشكاله وحيثياته وأنواعه وفصوله وعبره ما زالت تعيش الكثير من مجدها من خلال معارض تلقى الكثير من الترحيب في الأوساط الفنية وبين جماهير المعجبين.

معرض المصور الفوتوغرافي الفرنسي ويلي روني في عام 2006 شاهد مهم على هذه الخطوة بعد أن أمهُ خمسمائة ألف زائر، تلاه معرض روبير دوانو الذي شاهده أيضا ثلاثمائة ألف زائر. وصولا اليوم إلى معرض تكريمي آخر للمصور ذي الأصول الليتوانية إيزيس بيدرماناس 1911 – 1980 الذي جاء إلى باريس في عام 1930 وسكنها حتى رحيله.

تكريم بيدرماناس في معرض، يعني في مكان ما، تكريما، لحقبة من تاريخ باريس القرن العشرين. حيث لم تسلم زاوية على الأرجح من عدسة هذا اللاجئ إلى مدينة، قال هو نفسه عنها إنها «مدينة التنوير» التي جاءها في عمر التاسعة عشرة، حاملا طموحات وأحلام شاب جاءها من الفقر والعوز في بلده الأصلي.

قال عن تلك الفترة التي اختار لها باريس في حياته بأنها «المدينة التي تثير في الخيال، هي كل شيء بالنسبة لي، مدينة الحرية والمساواة والثقافة». لكنه جاء إلى باريس فقيرا معدما، لا يملك سوى بضعة فرنكات للعيش، لذلك كان التصوير بالنسبة له، وهو أحد ألمع «الإنسانيين»، كما نعته البعض، في التصوير الفوتوغرافي، المهنة التي أنقذته من شظف العيش والفقر.

عدسة بيدرماناس لم تخرج من هذا الحيز الواقعي والحقيقي، وهي، بقدر ما نقلته إلى العلن، نقلت معه واقع أبناء وسكان الضواحي الباريسية الفقيرة، الأشخاص المعدمين المستلقين على الأرصفة في ليالي البرد والصيف على حد سواء، النور الذي يركز عليه في صوره الليلية كان يعكس فكرته عن باريس التي عشقها كمنفى اختياري.

عمل في كثير من استوديوهات التصوير الباريسية مثل هاركور لكنه لم يلتزم قط بقواعدها الصارمة في إخراج النجوم، بل عمد إلى إخراج صوره كما هي بدون رتوش أو تعديل أو تجميل، هذه التيمة التي ميزت أعماله كلها وجعلته واحدا من ألمع مصوري عصره.

في العام 1949 انضم بيدرماناس إلى مجلة «باري ماتش» منذ عددها الأول. هنا، سينتقل من خبرة الاستوديوهات المغلقة إلى العمل على تحقيقات صحافية مثيرة عن المدينة التي أحبها مع رفاقه المثقفين وذلك بعد أن كان قد تعرف على الشاعر جاك بريفير الذي بات رفيق التجوال الدائم بين لندن وباريس. وكان يصور السباقات وغيرها من غير أن يلتقط صورة واحدة لبطل وهو يتوج وإنما كانت صوره تنم عن شغف حقيقي بالحركة التي تميز السباقات.

ذهب إلى لندن لحضور حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية، لكنه عاد منها دون أن يلتقط صورة واحدة للملكة، لكنه التقط صورة لها كانت معلقة على باب دكان بائع لحوم، أما باقي الصور من حفل التتويج فكانت للناس الذين كانوا نائمين أثناء حفل التتويج. صور بيدرماناس اللاحدث بامتياز، حتى إن بعضهم لقبه بمصور سطح القمر.

نشر بيدرماناس الكثير من الكتب خلال حياته، منها كتابه الأثير عن باريس «عيون الروح» الذي طلب فيه من مجموعة من الشعراء والكتاب مثل بول إيلوار ولوي أراغون وهنري ميللر وبليز سندرار وجان كوكتو إلى جانب نحو أربعين شاعرا ومثقفا آخرين أن يصورهم مقابل أن يكتبوا نصا عن باريس، فخرج كتابا يعتبر من أجمل ما كتب عن باريس خلال القرن العشرين. إلى جانب هذا الكتاب كان قد نشر قبله «باريس الأحلام» في عام 1950 وباع منه مائة وسبعين ألف نسخة مع مقدمة بديعة لجان كوكتو. لكن الكتب الأبرز في حياته تلك التي اشتغل عليها رفقة صديق ترحاله جاك بريفير مثل «حفل الربيع الراقص» و«جماليات لندن».

والحق أن كل هذا الضجيج في حياة بيدرماناس لم يرفعه إلى الشهرة التي كانت تحيط بزملائه روبير دوانو وهنري كارتييه بريسون وويلي روني وبراساي. بقي بيدرماناس بعيدا، خلف الأضواء التي كان يصورها في كاميرته. وهذا يعود إلى أنه عمل في مجلة وكان يحصل على دخل ثابت وفر عليه عناء التنقل والدعاية لبيع أعماله. غير أن نقاد التصوير الفوتوغرافي يعتبرونه أهم مصوري عصره.