الأقصر تتحول إلى متحف مفتوح لآثار الفراعنة

تفتتح في أكتوبر المقبل في احتفال عالمي

أسواق الأقصر في ثوبها الجديد («الشرق الأوسط»)
TT

في الوقت الذي كان يعتقد فيه البعض أن تهجير سكان قرية القرنة، الواقعة قبالة وادي الملوك في الأقصر، حيث يرقد توت عنخ آمون، ورفات ملوك الفراعنة، هو الأخير في نوعه في محافظة الأقصر، جنوبي مصر، وأن إزالة استراحة الفرنسي جورج لوجران، مكتشف خبيئة الكرنك في المدينة نفسه، هي آخر إزالة للمباني التاريخية، على الرغم من ذلك كله فقد حملت الأيام الأخيرة أنباء عدة لنزول معدات ثقيلة إلى شوارع المدينة، مما اعتبره البعض تهديدا مباشرا لآثار المدينة التي تحوي ثلث تراث العالم.

طيبة، عاصمة مصر القديمة، التي ألهمت الأديب الراحل نجيب محفوظ روايته الشهيرة، والتي حملت الاسم نفسه، أصبحت على موعد جديد من التغيير يراه مسؤولوها أنه سيكون بمثابة تحديث لها، وحفاظا على تاريخها الفرعوني، الذي أعقبته عصور تاريخية أخرى، بتحويلها إلى متحف مفتوح.

وعلى الرغم مما يذهب إليه مسؤولو المحافظة، الواقعة جنوب مصر وتبعد نحو 900 كيلومتر عن القاهرة، أن سعيهم لإزالة بعض المنشآت جاء بغرض التطوير، لجذب مزيد من الحركة السياحية للمدينة، وأنه لم يكن على حساب آثار المدينة وملامحها، وتعويض المضارين، فإن آخرين يرون أن ما حدث كان جورا على طبيعة المدينة وملامحها التاريخية.

محافظ الأقصر، الدكتور سمير فرج، أكد لـ«الشرق الأوسط» أنه ليست هناك معدات تهدم المنازل أو تعمل على تجريف الأراضي، وأن «المحافظة حققت كل ما كانت تحلم به لتحويل المدينة إلى متحف مفتوح، وأن شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل سيشهد الإعلان عن ذلك بحضور الرئيس المصري حسني مبارك وعدد من الشخصيات العالمية».

وبلهجة يكسوها التحدي، يؤكد محافظ الأقصر أنه لم يتضرر أحد من التطوير، وأن «من يردد بأن نقل سكان قرية القرنة إلى قرية أخرى نموذجية حديثة للكشف عن مزيد من مقابر الفراعنة كان إضرارا بهؤلاء السكان هو قول غير صحيح بالمرة».

ويقول المحافظ: «أتحدى كل من يثبت أن هناك ساكنا واحدا بهذه القرية يتعرض للضرر، حيث يسكن الجميع في أفضل القرى النموذجية، وبشكل أفضل من البيوت الطينية التي كانوا يسكنون فيها من قبل».

وبحسب الدكتور زاهي حواس، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، تعرضت قرية القرنة للعشوائيات خلال أكثر من 200 عام، وتم بناء منازل الأهالي على المقابر الفرعونية مباشرة، وأصبح وضع هذه المنازل والمنظر العام لا يمكن قبوله على الإطلاق.

وينفي زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط» أن تكون أي معدات دخلت طريق الكباش الأثري في معبد الكرنك بدافع التطوير، وبخاصة أنه يستحيل في ظل الطريق الضيق أن تدخل معدات ثقيلة على حافتي الطريق، الذي يمتد طوله إلى 2.72‏ كم، وعرضه 70‏ مترا، «وسمى بالكباش لكون التماثيل التي تتخذ شكل الكباش تتراص على جانبيه، وهى على هيئة تمثال أبو الهول الشهير، الذي يجاور أهرامات الجيزة».

ويقول حواس إن هذا الطريق أصبحت المدينة تراهن عليه في الوصول من خلاله إلى جذب الحركة السياحية، وبخاصة أنه من أقدم الطرق الأثرية والدينية في العالم، ويمتد عمره لآلاف السنين، أكثر من 3 آلاف عام، وشهد الكثير من التعديات التي كادت تودي بما يضمه من آثار، وهو «يعد من أطول الطرق القديمة التي تربط بين معبدين مصريين أثريين، هما الكرنك والأقصر».

كان المصريون القدماء يستخدمون طريق الكباش في الاحتفالات الدينية، خصوصا «عيد الأوبت»، الذي كان يشهد مواكب الملوك وعلية القوم وكبار الكهنة خلف زوارق مقدسة تحمل تماثيل الملوك، بينما يصطف أبناء الشعب على جانبي الطريق.

وينضم الأثري الطيب غريب، في منطقة آثار الأقصر، إلى رأي د. حواس عندما يؤكد عدم دخول أي معدات ثقيلة إلى ساحة طريق الكباش، وأنه كشاهد عيان يؤكد عدم تشويه الطريق، «بل إن ما يتم يأتي حفاظا على الطريق، ولم يكن منطقيا ترك المباني التي بنيت بالأساس عليه متعدية على حالها، ولذلك كان لا بد من إزالتها».

ويقول غريب لـ«الشرق الأوسط» إن فريق ترميم الطريق عمل على عدم المساس بأثرية الطريق، «فعندما كان يجد أن الأرضيات الأثرية صالحة للاستمرار كان يتركها، وغير ذلك كان يقوم بإضافة أحجار حديثة تتناسب وطبيعة الموقع التاريخي».

ومن مظاهر الجدل التي أثيرت مؤخرا، تلك التي ارتبطت بإزالة قصر أندراوس باشا، المطل على النيل، الذي يرجع تاريخ إنشائه إلى أكثر من 150 عاما، واتهام محافظة الأقصر بتدمير تاريخها الحديث.

وهنا ينفي د. سمير فرج أن يكون هناك تدمير لهذا التراث، «بقدر ما كانت إزالة البيت حماية لمعبد الأقصر، الذي يقع على مسافة 200 متر منه، ولم يكن مقبولا الإبقاء عليه»، مؤكدا أنه بيت وليس قصرا كما يردد البعض.

ويقول فرج إن كل ما يقوم به من أعمال تطوير يستهدف الإنسان الأقصري بالدرجة الأولى، وأن تقارير وكالات الأنباء الأجنبية التي تذكر خلاف ذلك إنما تختلق تصريحات صحافية منسوبة إلى سكان الأقصر بأسماء مستعارة، من دون أن ترصد حقيقة ما يدور في المحافظة من تطوير لمصلحة الأقصريين.

ولذلك، يجدد تأكيده على ضرورة أن يثبت له أي شخص أنه متضرر من أعمال التطوير التي جرت في الأقصر طوال السنوات الماضية، وبخاصة سكان القرية النموذجية القريبة من القرنة، «الذين اهتمت بهم الحكومة المصرية، ووفرت لهم الخدمات الأساسية كافة والحياة الكريمة، وما دون ذلك فهو محض افتراء».

إلا أن الخبير العالمي الدكتور ممدوح حمزة، مصمم مكتبة الإسكندرية، يبدي اعتراضه، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، على إزالة هذا البيت. ويؤكد أن له قيمة تاريخية، «وأنا عادة أعترض على إزالة كل ما له قيمة، لأن القيمة ينبغي الحفاظ عليها».

وعلى الرغم من اعتراضه هذا، فإنه يبدي اتفاقه مع محافظ الأقصر فيما يقوم به من إزالة للحفاظ على الطابع التراثي للأقصر، «وأنه ما كان ينبغي الإبقاء على مبان واقعة فوق طريق الكباش الأثري، وبخاصة أن بناءها من الأساس كان خطأ».

إلا أن عمق الخلاف بين فرج وحمزة تعكسه قرية المريس، تلك القرية الواقعة على الضفة الغربية للنيل، جنوب الأقصر بنحو 10 كم.

وفي الوقت الذي يسعى فيه فرج لتنفيذ القرار رقم 264 لسنة 2007، بنزع ملكية ومصادرة 500 فدان من أراضى هذه القرية، والاستيلاء عليها، وتهجير أكثر من 10 آلاف شخص من سكانها يقطنون أكثر من 2000 منزل وبيت، لقاء مبالغ مالية، لإقامة عمل مرسى سياحي فاخر بطول نحو 5 كم، فإن حمزة يطرح مشروعا لبناء المرسى على الضفة الشرقية للنيل المواجهة لقرية المريس، حيث توجد قرية الطود، وتبعد عن الأقصر نحو 17 كم، وبها بعض المشروعات السياحية الجديدة.

وفي هذا السياق، فإن جل سكان القرية يرفضون قرار نزع ملكية أراضيهم أو تهجيرهم من بيوتهم، مما دفعهم إلى مقاضاة الحكومة المصرية بنحو 64 قضية قاموا برفعها أمام القضاء الإداري ومجلس الدولة، لوقف تنفيذ المشروع الحكومي.

ويؤكد محمد الأقصري، من سكان القرية، لـ«الشرق الأوسط» أنه وغيره سيقف بالمرصاد لأي قرار يمكن معه أن ينزع بيته أو أرضه، «أموت تحت الجرافات ولا ينال أحد سنتيمترا من أرضي وبيتي».

ويقول عزوز سالم، من سكان القرية، لـ«الشرق الأوسط»: «لن نسمح لأحد بتجريف أراضينا من أجل حفنة من رجال الأعمال، لكي يقيموا فنادق عائمة على أراضينا التي شربنا المر في زراعتها، والحفاظ عليها».

وإلى الآن، فإن مصير المشروع ومستقبل قاطني القرية وأراضيهم لا يزالان مجهولين، وفق ما يؤكده الدكتور حمزة بأن مشروعه البديل لا يزال حبيسا داخل أدراج مجلس الوزراء، «وحقيقة لا أعرف وقتا يمكن أن تبت فيه الحكومة المصرية لتحسم الجدل الدائر حول المشروع».

الأثري الطيب غريب يصف هذه القرية بأنها بسيطة، والمهنة الأصلية والرئيسية لأهلها هي الزراعة، وأغلب المنطقة المحيطة بها كذلك. وينفي أن تكون بها أي مظاهر من الشواهد الأثرية.

ويقول هي قريبة من النيل وأغلب أرضها طرح نيل، أي طمي وغرين يخلفه الفيضان، وتبعد عنها قرية أرمنت بنحو 5 كم والتي يوجد بها معبد كبير، وتقع على الضفة الغربية للنيل على بعد 20 كم جنوب محافظة الأقصر.

ولأهمية الأقصر وما تستوعبه من آثار المصريين القدماء، الفراعنة، كان القرار الجمهوري قبل نهاية العام الماضي بتحويلها إلى محافظة، لتصبح المحافظة المصرية رقم 29، وهو ما حقق حلم أبنائها الذين ظلوا يحلمون به منذ 40 عاما تقريبا.

ومنذ صدور القرار الجمهوري وجهود أبناء الأقصر تتواصل على قدم وساق لتحويل مدينتهم إلى متحف مفتوح، في محاولة من الأحفاد لاستعادة تراث الأجداد، عندما كانت المدينة تشهد عبقا تاريخيا، تعاقبت عليه العصور، سواء الفرعونية أو الرومانية أو اليونانية، وهى الآثار التي لا تزال صامدة إلى اليوم، تواجه تحديات الزمن بشموخ وكبرياء.

ونتيجة لما ترتب على القرار بضم إسنا وأرمنت إلى الأقصر في هيكلها الجديد كمحافظة، فقد أعيد إلى المدينة تقسيمها الإداري الفرعوني الذي كان سائدا منذ 3 آلاف عام تقريبا، عندما كان يسمى هذا الإقليم بالإقليم الرابع، ويضم طيبة وإسنا وأرمنت. وكانت الأقصر (طيبة) العاصمة التي ظلت كذلك لمصر حتى بداية الأسرة الفرعونية السادسة، إلى أن انتقلت العاصمة إلى منف في الشمال.

وزائر الأقصر يلمس بنفسه المتغيرات التي تشهدها المدينة من وقت إلى آخر،، لتستعيد وجودها الحيوي على الخريطة السياحية العالمية، الذي خفت قليلا على إثر الحادث الإرهابي الذي شهدته الأقصر في عام 1997، وأودى بحياة عدد من السياح الأجانب.

وعلى مدى تاريخ الأقصر تعددت الأسماء التي أطلقت عليها، وأشهرها: مدينة المائة باب، ومدينة الشمس، ومدينة النور، ومدينة الصولجان، وأطلق عليها العرب هذا الاسم «الأقصر»، جمع قصر، مع بداية الفتح الإسلامي لمصر، وذلك لكثرة القصور بها.

وتعتبر المدينة أهم مشتى سياحي في مصر، وبؤرة جذب لعشاق الحضارة الفرعونية، فتمتاز بطابعها الفريد الذي يميزها عن جميع بقاع العالم، مما يجعلها مقصدا سياحيا من أهم مناطق الجذب السياحي ليس في مصر وحدها، بل في العالم أجمع، حيث لا يخلو مكان بها إلا ويحمل قدم أثر يقدر بآلاف السنين.

ومن أهم المناطق الآثار الفرعونية في الأقصر، معبد الكرنك، وفيه يتوه المرء من سعته، ولما يضمه من أطلال معابد تعاقبت عليها عصور فرعونية ورومانية ويونانية، فضلا عن طريق الكباش، والمسلات الفرعونية، والمقصورة الحمراء للملكة حتشبسوت، وغيرها من الآثار.

ومن بين خطط المحافظة لتحويل المدينة إلى متحف مفتوح تطوير معبد الكرنك، وصيانة ساحته ورفع ما عليه من عشوائيات وتعديات، وهو ما تم تحقيقه بتطوير ساحة المعبد، فضلا عن التطوير المتواصل للمعبد من الداخل، وهو ما يقوم به المجلس الأعلى للآثار، بالتعاون مع محافظة الأقصر.