المايسترو رقم 1 في العالم ينقل روسيا إلى غرب الولايات المتحدة

غرغييف يكشف النبض الروسي في تشايكوفسكي ورخمانينوف

دعوة غرغييف ليقود أوركسترا لندن السيمفونية (أ.ب.ف)
TT

لن تسمع الموسيقى الروسية الأصيلة لرخمانينوف وتشايكوفسكي في حياتك كما تسمعها اليوم حين يقود أوركسترا مسرح مارينسكي الشهيرة المايسترو الأول في العالم فاليري غرغييف.

العولمة في عالم الموسيقى الكلاسيكية تعني أنك إذا لم تجد غرغييف في مقر إقامته الرسمي في سان بطرسبرغ في روسيا ستجده يقود أوركسترا لندن السيمفونية بعد أن استلم قيادتها منذ سنتين وإن لم تلحق به هناك ستعثر عليه في نيويورك وهو يقود أوركسترا أوبرا المتروبوليتان المعروفة عالميا. فهو ضيفها المميز في كل المواسم، وقد رأيته مرارا في روما وفي مهرجان رافينا الساحلية بإيطاليا لكنني لم أتوقع وجوده في سان دييغو الأميركية المطلة على البحر الهادئ التي تهوى السباحة ورياضة ركوب الأمواج المتكسرة أو ملاحقة الحيتان الرمادية التي تهبط من ألاسكا المتجمدة إلى جنوب كاليفورنيا في رحلتها الربيعية السنوية.

يعود الفضل في دعوة غرغييف وفرقته الموسيقية المفضلة في مسرح مارينسكي (وكان يسمى كيروف في عهد الاتحاد السوفياتي) إلى جمعية لا هويا الموسيقية وهي الضاحية الجميلة الأنيقة في سان دييغو التي سماها المكتشفون الإسبان «الجوهرة». وتعتبر أوركسترا مارينسكي الفرقة الموسيقية الرابعة عشرة في العالم بعد أوركسترا كونسرت غيباو الهولندية في أمستردام (رقم 1 حسب تصنيف مجلة غرامافون البريطانية العريقة) وأوركسترا برلين الفلهرمونية ثم أوركسترا فيينا الفلهرمونية وأوركسترا لندن السيمفونية. لولا جهود غرغييف ونشاطه الخارق كادت أوركسترا مارينسكي أن تتهاوى مع انهيار الاتحاد السوفياتي قبل عشرين عاما لكنه مكنها من البقاء بعد وقف الدعم الحكومي ونقلها من نجاح إلى آخر ونشر كنوز ونفائس الموسيقى الروسية من الباليه إلى الأوبرا التي لم تكن معروفة للعالم خارج روسيا، لذا يكن له رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين مكانة خاصة في الكرملين، خصوصا بعد الحفلة الموسيقية التي قادها غرغييف قبل ما يزيد عن عام إثر الحرب بين جورجيا وروسيا فهو ابن القوقاز ومسقط رأسه كان في جمهورية أوسيتيا الصغيرة القابعة بين البلدين.

قدم غرغييف مع فرقته المفضلة كونشرتو البيانو الثالث لرخمانينوف حيث تبارى نجم روسي جديد للبيانو وهو دينيس ماتسوييف مع الأوركسترا ونقلنا العازف الشاب (34 سنة) من لحظات الهياج إلى لمسات الرقة بأسلوب بارع دون عاطفية متدفقة كما يفعل بعض العازفين للتأثير على الجمهور لكنه برهن على طريقة محكمة من الناحية التقنية العقلانية على أن آلة البيانو افتقرت إلى التعبير الانفعالي الرقيق لكنها سيطرت على عواطف الجمهور لأنها مرت على مفاتيح البيانو كالعاصفة فانفجر التصفيق المتواصل ونهض الناس واقفين لعشر دقائق فأهداهم ماتسوييف قطعة منفردة لشوبان رطبت من أحاسيسهم وأقنعتهم بأنه متمكن من عزف الألحان الهادئة العذبة مثل تمكنه من الأنغام المثيرة السريعة. حانت اللحظة الحاسمة حين قدمت الأوركسترا السيمفونية الرابعة لتشايكوفسكي فانسابت الألحان بقيادة غرغييف بطريقة فذة لا يمكن لأحد تقليدها، فالمايسترو يعرف جيدا النبض الروسي والروح الروسية الحقيقية لما كتبه تشايكوفسكي فالطابع الراقص تميز بالإيقاع المتقن والطابع القوي بالسرعة المطلوبة والانسجام بين الآلات كان مثاليا فلا تطغى الوتريات على غيرها ولا تعلو أصوات الأبواق أكثر مما ينبغي. قلت في نفسي: كم مرة سمعت فيها هذه القطعة الخالدة على الأسطوانات أو الحفلات وكم قائد للأوركسترا تداول على عزفها لكنني لم أسمعها قط في حياتي مثلما سمعتها هذه المرة فالعازفون المائة يصدرون صوتا متدفقا غنيا بالألحان المختلفة لكنهم يبدون وكأنهم آلة واحدة فهناك تناضح وتبادل بينهم كالسوائل المختلفة الكثافة والمنفصلة عن بعضها التي يتجانس تركيبها بيد سحرية خلاقة فهذا هو غرغييف يشير بيديه بهدوء ودون عصا القيادة، لكن الجميع يفهم حركاته وإشاراته الصماء فهناك شعور جماعي صامت بين العازفين ورئيسهم يدعوهم للإبداع والفخر في عزف الموسيقار الأول في روسيا تشايكوفسكي تحت قيادة المايسترو الأول الذي يحثهم ويحفزهم على انبثاق الألحان التي تمتعهم قبل أن تصل إلى أسماع الحضور وأغلبهم من الروس الذين هاجروا إلى أميركا.

انفجرت في الختام صيحات الإعجاب مع التصفيق الحاد وكانت ليلة روسية خلابة بكامل الأوصاف على ضفاف المحيط الباسيفيكي، وضمن غرغييف لنفسه لقب التألق بروح وقلب روسيا مما كان سيثير إعجاب تشايكوفسكي ورخمانينوف لو كانا أحياء فالأول كان معجبا بالولايات المتحدة وزارها عام 1891 لحضور الحفلة الأولى لباليه «كسارة البندق» في نيويورك والثاني هاجر إليها وتوفي في لوس أنجليس (بيفرلي هيلز بجوار هوليوود) القريبة عام 1943.

غادر غرغييف مدينة سان دييغو في اليوم التالي دون أن يستمتع بشاطئها البديع ومناظرها الطبيعية الخلابة وطقسها المعتدل وحيتانها الرمادية المتجهة جنوبا إلى المكسيك فهو على موعد في نيويورك مع الأوبرا المبنية على قصة غوغول «الأنف» للموسيقار الروسي شوستاكوفيتش حول البيروقراطية الروسية، وبعدها لندن ثم يرجع لبضعة أيام إلى سان بطرسبرغ ليسافر مجددا إلى نيويورك ليقدم عدة حفلات للموسيقار سترافنسكي ثم درسدن بألمانيا وبعدها فيينا يتبعها مهرجان فربييه في أعالي جبال سويسرا ويقفل عائدا إلى سان بطرسبرغ لتحضير مهرجانه الموسيقي الصيفي السنوي المسمى «الليالي البيضاء»، فهو كثير الأسفار ويجوب العالم باستمرار وقدرته على العمل لساعات طويلة والانتقال من مكان إلى آخر أصبحت أسطورة لكل العارفين.